أرض للأحياء وأرض للأموات والحب جسر بينهما

تحفل العديد من الروايات بنقل أحداث واقعية جدّت في الماضي، وتركت الكثير من نقاط الاستفهام حول ظروف وقوعها، دون التقيّد بأزمنة معينة، لأن التاريخ سجل لنا وقائع حوّلها البعض من الكتّاب إلى أعمال أدبية، وإن حاولت التخلّص من عبء التسجيل والتأريخ، فإنها في النهاية ظلت مقيّدة بسير الأحداث الفعلية، بغض النظر عن الشخصيات والأبطال، وقد انعدمت حينها المخيّلة وحضرت الذاكرة.
الاثنين 2016/06/20
\"جسر سان لويس راي\" في صيغة عمل درامي

يفقد خمسة أشخاص عشوائيين حياتهم إثر انهيار جسر يعود بناؤه إلى زمن الإنكا في البيرو عام 1714، خمس حيوات تتقاطع لحظة الموت، لا تجمع بينها إلّا المعرفة السطحية، هذا الحدث يثير الأب جوبينور ليبحث في “المخطط الأعظم للرب” الذي أدّى إلى انهيار الجسر، فيمضي 6 سنوات في السؤال عن كل من كان على صلة بأولئك الأشخاص، لينتهي الأمر به بوصفه مهرطقا، وليُحرق مع كل نسخ الكتاب الذي ألفه، إلا نسخة واحدة هي التي نقرأ منها الحكايات على لسان الراوي.

يُصنف الكاتب ثورنتون وايلدر (1897-1975) من كلاسيكيي الأدب الأميركي، إذ عمل في كتابة المسرح والرواية، وتنقل بين أوروبا وأميركا للدراسة والعمل، كما أنه حاصل على جائزة بوليتزر ثلاث مرات، في المرة الأولى عن روايته الثانية “جسر سان لويس راي” عام (1928)، ثم مرة ثانية عام 1938، وثالثة عام 1943 عن نصين مسرحيين له. وفي هذا العام صدرت الترجمة العربية لروايته “جسر سان لويس راي” عن دار الأدب للبرمجيات والنشر والتوزيع بترجمة لقاسم حسن درار.

يقسم وايلدر الرواية إلى خمسة أجزاء كل منها يحكي عن واحد من ضحايا الجسر، لكن قبل البداية يفتتح الرواية بفقرة صغيرة عن انهيار الجسر، ليضعنا منذ البدايّة أمام الحدث المأساوي، بالرغم من أن الجسر موجود حقيقة، وأن البعض من الشخصيات ذات مرجعيات حقيقية وأدبيّة، إلا أن وايلدر يبني الرواية على أحداث وحكايات متخيّلة، في القسم الأول يحكي عن مصادفة انهيار الجسر، ووفاة الأشخاص الخمسة، والفزع الذي حل بأهل القرية نتيجة ذلك.

الجسر الذي يحميه ملك فرنسا باسمه ينهار، ليتحدث بعد ذلك الأب جوبينور بعد جهود قام بها لجمع قصص هؤلاء الخمسة وحكاياتهم، في محاولة لإيجاد تفسير لسبب هذا الانهيار، وهل ما وقع من أفعال الرب أم أن الجسر أصبح ضعيفا؟ جهود الأب جوبينور تتبع حكايات الخمسة لتنتهي بكتاب، يتهم إثره الأب جوبينور بالهرطقة وأن فعله هذا من وحي الشيطان، ثم يُحرق هو ونسخ الكتاب الذي جمع فيه القصص، لتنجو نسخة واحدة هي التي يعتمدها الراوي في سرد الحكايات.

بحث في معنى الحياة والجدوى منها

نقرأ في البداية قصة الضحية الأولى لانهيار الجسر، دونا ماريا والدة دونا كلارا التي رحلت إلى أسبانيا بعد زواجها، وإثر زيارة دونا ماريا لابنتها وعودتها إلى البيرو نتيجة اكتشافها استحالة اتفاقها مع ابنتها، تبدأ الاثنتان بتبادل الرسائل، التي تتحول بعد سنوات إلى مادة تُدرّس ويتبادلها الطلاب لقيمتها الأدبية العالية. إثر حَمل ابنتها تذهب دونا ماريا الى دير سانتا ماريا كلوكامبغوا مع مرافقتها بيبتا، وهناك تكتشف رسالة تصف فيها بيبتا سوء معاملة دونا ماريا لها، هذه الصدمة تجعل دونا ماريا تعيد النظر بحياتها، وأثناء عودتها من الدير مع بيبتا يسقط الجسر بهما.

ونقرأ بعد ذلك قصة التوأم مانويل واستيبان، فمانويل يموت إثر التهاب في ركبته، وقد كان يهذي عشقا بممثلة المسرح بيركول، التي كانت عشيقة أحد نبلاء أسبانيا ويلعن أخاه الذي حرمه منها، ما يجعل استيبان حائرا شبه مجنون بعد موت أخيه، وينتهي به الأمر على الجسر أيضا، بعد رفضه الذهاب إلى رحلة بحرية طويلة مع القبطان غوسيب. أما في القسم الرابع فنقرأ قصة العم بيو صاحب المغامرات الكثيرة والمهارات المتعددة، والذي حوّل بيركول إلى ممثلة مسرح محترفة ذائعة الصيت، غير أنها ما لبثت أن طردته وحرمته حتى من رؤية ابنها الذي يرغب في تربيته، لكن ما إن يحصل على الطفل، حتى يعبرا الجسر ويسقطا معا، لتنتهي الرواية بتتمة حكاية الأب جوبينور ومصيره، ثم بقداس الضحايا وعودة دونا كلارا ولقائها مع ألبير كرول التي فقدت معلمها وابنها.

الرواية تُسائل معنى الحياة وجدوى ما نعيشه يوميا حتى مماتنا، ويتضح ذلك في العبارة الأخيرة من الرواية “هناك أرض للأحياء وأرض للأموات والجسر بينهما هو الحب، هو الناجي الوحيد، والمعنى الوحيد”، فالجسر لا يسقط بين العالمين، في حين أن الشخصيات تدخل عالم الأموات بعدما فشلت في التعبير عن حبها بشجاعة، التخطيط الرباني الذي حاول الأب جوبينور أن يكتشفه، لم يكن موجودا، بالرغم من الحسابات الرياضية التي قام بها لقياس الإيمان وعلاقته بالموت العبثي للأشخاص الخمسة، لكنه لم يصل إلى نتيجة، فالمعنى مرتبط بالحب، كمحرك للأفعال واتخاذ القرارات المرتبطة بمشاعرنا نحو الآخرين، في حين أن الأشخاص الخمسة لجأوا إلى السرد في الحديث عن الحب، وكانوا يكتبون أو يحكون دون “فعل” في سبيل من يحبونهم، أما جهود الأب جوبينور فلم تصل إلى نتيجة لأنه فشل في قياس العاطفة، التي تتحدد شدّتها بالأفعال ونتائجها، لا بالكلمات.

تغوص الرواية في هشاشة العلاقات الإنسانيّة وسهولة الانفلات في هاوية الفقدان، فالأفراد الذين قضوا في حادثة الجسر غافلون عمّا خسروه، أما السؤال عن “معنى الحياة” فلم يُطرح إلا بعد الفقدان، انهيار الجسر ليس إلا فعلاعبثيا، لا يحمل معنى في ذاته، هي الحيوات التي نبش الأب جوبينور فيها بحثا عن خسارتها جاعلا الانهيار ذا قيمة، وهذا ما حكم أيضا عليه بالهرطقة.

الراوي المجهول يقدم لنا الفصول الخمسة وقصة الأب جوبينور الذي يسمح لنا إلى جانبه بطرح التساؤلات حول دوافع الشخصيات وما تمر به وعن مصائرها، ويتيح لنا أن نكتشف معه أنواع الحب الذي تعيشه هذه الشخصيات؛ فهناك الحب من طرف واحد، والحب المرضي، كما نقرأ لنكتشف تدريجيا السبب الذي أدّى إلى الخسارة، فانهيار الجسر هو مجرّد دافع للبحث، والحيوات المتوازية للضحايا التي تتقاطع أحيانا بصورة سطحية لا تغيّر شيئا من بحثنا (القارئ/ الراوي)، إذ الحقيقة باقية، وإن لم نكن شجعانا للاعتراف بحبّنا فسنفقده، وقد نفقد حيواتنا دون أن يعلم أحد ما يدور بداخلنا.

14