أديب مخزوم.. ذاكرة التشكيل السوري وراصد حكاياته المتنوّعة

أديب مخزوم الناقد أكل الكثير من مخزوم الفنان التشكيلي السوري، فلولا تداركه في السنوات الأخيرة وعودته إلى اللوحة بقوة حبه للبحر ولقواربه، ربما كان لتدفّق قلمه القدرة على هضم ريشته. لكن الصحوة اللونية أيقظت الفنان الساكن فيه لمُمارسة سيرورة لا متناهية في محاولة لإرساء دعائم سياقاته الخاصة.
أديب مخزوم (1962) وصلاح الدين محمد (1949 – 2016) وأسماء أخرى دخلت الحياة التشكيلية السورية كفنان تشكيلي، وبقي الفن نبضهم في كل تحركاتهم في هذا الفضاء الجميل، رغم أن القلم سرقهم كثيرا وأبعدهم إلى مسافات أخرى، لا بأس بها بعدا.
قلمهم ذاك كان يغمس بألوان الفضاء ذاته وأبدعوا به أيما إبداع، فكل من أديب وصلاح الدين أسّسا قراءة تشكيلية تقارب التجربة التشكيلية السورية على نحو عام وتجربة الكثير من الفنانين على نحو خاص، وإن كان لكلّ منهما مفرداته الخاصة أثناء سيره في هذا الطريق الطويل، الشاق، العذب، الجميل، فإن استفاد مخزوم من لغته الأدبية والشعرية الكثير، فإن محمد اتكأ على نحو كامل على العمارة وهندستها حيث كان قادما منها.
موسوعة فنية
بين الواقعية والتعبيرية والتجريدية ينتقل مخزوم، له في كل حقل نمط من الخلق، مشرّعا نوافذه على جل المدارس الفنية
أديب مخزوم من كثرة ما عرف كناقد تشكيلي له حضوره المميّز في الإعلام السوري، الورقي منه والمرئي والسمعي حتى درجة الإغراق، نسي الوسط أن هذا الذي يبذل الكثير ليتحدّث عن الآخرين ويقدّمهم ويكشف خبايا فرشاتهم بقلم محب وصديق للجمال والفن، وعاشق لأسرارها والكشف عنها ويحبّ كل من يتعامل معها وكل من يعيش في هذا الوسط ويتنفّس فيه، هو في الأصل فنان قبل كل شيء.
نسي الجميع أو كاد ينسى أنه فنان تشكيلي له عالمه كالآخرين، ناسيا نفسه، باحثا عن الآخر دون أن يبذل هذا الآخر يوما أو لحظة بأن هذا الذي يتحدّث ويكتب عنه وعن أعماله وحياته وتجربته، ويركض قبله إلى معارضه علّه يقتنص عذوبة ودفئا من بين ثناياها ويعرضها على العامة، في صحيفة محلية أو في دورية عربية أوفي برنامج إذاعي أو تلفزيوني، أو في كتاب، دون أن يفكّر أحدهم بأن هذا الذي ترك نفسه وذهب إلى الآخر ليضعه تحت الضوء هو زميله في الريشة واللون.
فبكل جرح أقولها، وعلى امتداد هذا الزمن الذي تجاوز الثلاثين عاما، ومع طابور من الفنانين التشكيليين وعلى الأخصّ منهم الذين يمارسون الكتابة إلى جانب الريشة، ألا يوجد أحد ليلتفت إلى هذا الإنسان كفنان ليقول عن تجربته ما يمكن أن يقال؟ فيأتيني الصدى “لا أحد، فالكل غارق في ليلاه”.
مخزوم من الأشجار المثمرة التي تشتهر بها سوريا، أثمرت في البدايات الشعر حين أصدر مجموعته الوحيدة “أحبّك أكثر في سواد الزمن الآتي”، وأثمرت في ما بعد الموسيقى حين بات يملك مكتبة ضخمة منها تمتدّ في عمق القرن الفائت، ثم أثمرت الفن التشكيلي وما تزال، إلى أن أثمرت النقد والقراءة فبات القلم رحلته الغنية به يشيّد عمارته النقدية، العمارة التي اشتهر بها، وفيها وجد مسكنه الأوفى والأدفأ، فكان عطاؤه كبيرا، وفيها أصدر كتابه “تيارات الحداثة في التشكيل السوري”.
تناقض متوازن
ذاكرة مخزوم الفنية مفتوحة على آفاق كثيرة، ولهذا يضعنا وهو معنا أمام تقابلات ممكنة بين الألوان، سواء أكان ذلك داخل السياق الواحد، أو داخل عدة سياقات لكن بنسق يقتضي وعي الحالات لذاتها.
وهذا عنصر حاسم في شكل التأمّل لتلك الحالات مع الحاجة لخلق حوار إنساني/ جمالي يفتح المجال لفهم الدلالات مع الإشارة إلى (المدلول/ المفاهيم) الغائب/ الحاضر، مع ضرورة التفريق بين مختلف الآليات المتداخلة والمتدخّلة لكسب الحيّز الأوفر في الزمكان.
ويمكن بالتالي ألاّ يغيب عن ذهن مخزوم ارتباط عتبات أعماله المكتظّة بالدلالات بالمتخيّل لديه، وإن في صياغات لونية تداولية في لغتها وفي تجسيماتها، فهذا النمط من النصوص/ الأعمال لا يعترف بمحدودية التساؤلات بقدر ما تعترف بنية المؤلف/ الفنان في تشكيل أفق القارئ/ المتلقي كمؤشرات وضعية، هي في الأساس حقائق مبعثرة في العالم كظواهر تبحث لنفسها عن معايير لائقة لتثمر نتائج بالغة الجمال.

إكليل ياسمين يتوّج المرأة سيّدة على عرش الجمال
يبدو من الطبيعي أن تأتي أعمال مخزوم خلطة فنية مرهونة بالعثور فيها على قوائم تمتدّ في أكثر من مدرسة فنية، فلا غرابة في ذلك، فانشغاله بالنقد الفني له أثره على ريشته، وإن كان يطمح إلى خلق أنموذج لعمل تكون حقيقته متشظية في الذات/ الأنا، وتُثير مخيلة القارئ/ المتلقي، وتضعه أمام سجال لا ينتهي في زمن معيّن.
مخزوم ينفتح على كل التجارب، ويقارب كل المدارس، وقد يجرّ أكثر من مدرسة إلى ذات اللوحة، وقد يوحي لك بالتناقض الذي ينبض به أعماله، فهو يحمل الجهات جميعها ليضعها في الاتجاه الذي يسير فيه وإليه وإن كان ذلك صعبا ووفق إيقاع بطيء، إلاّ أنه مستعد تماما إلى الإقرار بأن هذا التنوّع قادم لا من التنوّع في المواضيع بل من المبادرات التي يقوم بها ويشتغل عليها.
ولعل أكثرها وضوحا هي التوليفة التي يعزف عليها مخزوم، تلك التوليفة التي تندرج ضمن تفعيل الاتجاه حيث التناقض/ التوازن يتماشيان بتمايز الشكل مع الاتجاه وهذا يجعله يتاخم الولع الذي سيغدو مختارات تلاحق الحكاية.
حكاية مخزوم ذاته وكذلك حكاية المتلقي وهو يقف أمام عمله، وقد يكون من الصعوبة بمكان الظن أن الفنان يغيّر مكاشفاته من عمل إلى آخر بحثا عن المغاير، تلك المكاشفات التي تؤرّقه كثيرا لالتقاط لحظة استيقاظ الوعي المعرفي التي بها يتجاوز التشابه، ويؤكّد على الاختلاف بامتلاك قوة التأثير في السياق وبالتالي إثراء بناها السردية.
بين الواقعية والتعبيرية والتجريدية ينتقل أديب مخزوم، له في كل حقل نمط من الخلق، وبالتالي نمط من التفكير دون أن يغلق نوافذه مطلقا، فهي مشرّعة عليها جميعا (أقصد على المدارس الفنية) دون أن تقيّده إحداها، بقي طليقا نحو أفق مفتوح وذاكرة تحصد الرغبة والافتراض، وينزاح بإشاراته نحو كسب مفردات بصرية ناجزة قد تكون هي الدال والمدلول معا.
لن نجازف بالقول إن قلنا إن عودة أديب مخزوم للون هي بحد ذاتها مجازفة، فغيابه لعقود طويلة مع انهماكه العذب في بناء عمارته النقدية التي وفّق فيها إلى حد كبير، وباتت سماؤه التي يتفيّأ تحتها، وسيطرته على قلمه، كان ذلك كافياً لرسم القلق لديه ولدينا. ولكن صحوة خطواته المرهونة بالعثور على إيقاعات غير ذائعة هي حقيقة جرأته ومغامرته تلك، هي نوع من ردّ الروح لمهاراته التشكيلية بجماليتها التي تستجيب لكشفه ورصده لفضاءاته التي تلتصق على نحو ما بأحاسيسه في بعديها العاطفي والانفعالي، بأحاسيسه الوطيدة بعلاقاتها مع الواقع بمفهومه الأعمق، وخلق عوالم مصغّرة هي التي ستلخّص لاحقا تجربته.