أدب النكبات.. كتابة عاطفية تنشط في زمن الحروب والأزمات

أدب النكبات تصنيف يخص المضمون والمحتوى قبل الشكل والأسلوب، لكن لا هوية فنية تخصه إلا بقدر ما يعطيه صاحب الأثر من زخم إبداعي، ذلك أن ليس من الرجاحة والصواب النقدي أن نضع كل الكتاب تحت يافطة واحدة لمجرد أنهم عايشوا حدثا واحدا.
لا يختلف اثنان في أن نفائس الرواية والشعر والمسرح في تاريخ البشرية قد ارتبطت بالنكبات التي تعرضت لها القرى والمدن والبلدان فكانت تلك المؤلفات بمثابة “التاريخ الصغير” الذي هو أشد سحرا وإمتاعا عند قراءته، من تاريخ المؤرخين والموثقين.
ومن هنا تترسخ مقولة “الأدب مأساة أو لا يكون” للكاتب والمفكر الوجودي التونسي محمود المسعدي، وذلك على صعيدي المضمون من ناحية، وكذلك ظروف كتابته ومعالجته الفنية، إذ أن مفهوم البطولة يأخذ طابعا مزدوجا فيجمع بين الشخصية المتخيلة، وشخصية الكاتب نفسه أي محرك الأحداث في بعده الأول، وصانعها في بعده الأعمق.
ما يشهده العالم اليوم من اضطرابات بطلها الإنسان والطبيعة، سوف نقطفه غدا على شكل إنتاجات أدبية وفنية تؤرخ للنكبة الحالية التي تعيشها الإنسانية، لكن إنسان العصر الحالي لا يتعامل معها على أساس أنها نكبة بل يحسب النكبة ما كان قد جرى في الماضي، والحقيقة أن الناس الذين عايشوا النكبة الفلسطينية مثلا، لم يكونوا واعين بأنها نكبة، وإنما جاءت التسمية لاحقة.
مغزى القول هو أن “النكبة” مفهوم أنطولوجي يقتضي الديمومة والوعي بأسئلته الحارقة من منطلق أن أي لحظة يعايشها الإنسان هي “نكبة” بمفهومها الوجودي وليست مجرد أحداث فارقة صنعتها سياسات عسكرية أو اجتماعية أو عنصرية أو ثقافية.
سوف يسمي الأديب الأوكراني مثلا، ما يحدث في بلاده الآن بأنه نكبة، ولكن بعد جيل أو جيلين، أما عن إنسان الحاضر فيتعامل معها بواقعية ويقرأها على أنها أزمة تسبب فيها تضارب مصالح سياسية واقتصادية.
أدب الاضطرابات
وإذا ما عدنا الآن إلى حروب اليونان والفرس والرومان وغيرهم من الأمم القديمة فإننا نقرأها من وجهة نظر المحلل السياسي المتسلح بنظريات اقتصادية أو أيديولوجية، لكن شعراء تلك الأمم ومؤلفي ملاحمها الخالدة نظروا إلى تلك الحروب من منظور مختلف يطغى عليه الهم الذاتي ويحركه الوازع العاطفي الذي يغذيه الخيال.
الأدب العربي في العصر الحديث عرف هذا النوع من الكتابة فترة ما بعد 1948 أي ما بات يعرف بالنكبة المتمثلة في الاستيطان الإسرائيلي وما انجر عنه من تهجير لحق بالشعب الفلسطيني.
◙ الكتب ما تزال بمثابة "التاريخ الصغير" الذي هو أشد سحرا وإمتاعا عند قراءته، من تاريخ المؤرخين والموثقين
وبرزت في هذا الإطار أسماء كثيرة ومتميزة في الرواية والشعر والكتابات النقدية والصحافية مثل نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، طه حسين، فدوى طوقان، يحيى حقي، بدر شاكر السياب، حسنين هيكل وغيرهم. وقد تشعبت وتشابكت التصنيفات النقدية حتى ضمن الهوية القطرية الواحدة، ولكن ذلك لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد أرشفة.
وفي هذا الصدد صنف الباحث محمد الجعيدي كتاب "مصادر الأدب الفلسطيني الحديث" الأدب على أربع مراحل: الأولى تبدأ مع النهضة الحديثة حتى عام النكبة 1948.. الثانية من 48 حتى 67.. الثالثة من 67 حتى 87 حيث بداية الانتفاضة الفلسطينية والتي استمرت لخمس سنوات، لتتجدد في ما بعد.
وهكذا أصبح مفهوم النكبة يتجاوز مجرد التأريخ لحدث سياسي اجتماعي، ويتطور إلى أن يشمل هوية فكرية متكاملة، إذ يقول المفكر الفلسطيني - الأميركي إدوارد سعيد "قد يختلف الفلسطينيون في أشياء كثيرة لكنهم يتفقون على تسمية ما حدث لهم سنة 1948 بأنه نكبة".
مصطلح مفبرك
إذا كان هناك من سمة تجمع هؤلاء على مختلف مشاربهم وخلفياتهم الفكرية فهي الحسرة والغضب على ما آلت إليه أحوال المنطقة التي لا تزال أقطار كثيرة منها ترزح تحت القوى الاستعمارية، خصوصا في منطقة شمال أفريقيا.
كتابة الندب والحسرة والمرثيات ليست جديدة على كتاب اللغة العربية منذ رثاء البصرة التي أحرقها الزنج، مرورا ببغداد التي اقتحمها المغول، وغرناطة التي افتكها الإسبان أثناء محنة الأندلس، ووصولا إلى فلسطين وما جاء وسوف يأتي بعدها من نكسات.
◙ كتابة الندب والحسرة والمرثيات ليست جديدة على كتاب اللغة العربية منذ رثاء البصرة التي أحرقها الزنج، مرورا ببغداد التي اقتحمها المغول، وغرناطة التي افتكها الإسبان
ومثل جميع الأمم والشعوب التي تكتب عن واقعها بعاطفة تمتزج مع الخيال، فإن العرب قد تعاملوا مع نكباتهم بـ”نكهات” مختلفة باختلاف المواهب والمشارب والأذواق، فالنكبة عند غسان كنفاني غير تلك التي في رواية نجيب محفوظ أو شعر توفيق زياد مثلا.
كل كتابة أدبية أو صياغة فنية لها “نكبتها الخاصة” تحركها وتبعث فيها زخما إبداعيا، لكن هذا لا يعني أن الإبداع الأدبي ينتهي وينعدم بانعدام النكبات.. مهلا، ما المقصود بـ”النكبات”؟
إنها النكبة المحرضة بالتأكيد أي تلك الأزمة الوجودية التي تسكن الذات المبدعة وتحرضها على صناعة أثر فني ما. وهذا الإحساس بـ”النكبة الدائمة” لا يمكن أن يتوفر إلا لدى المبدع المسكون بقلق وجودي من شأنه أن يطرح الأسئلة ولا يستسلم لتلك الطمأنينة الكاذبة المبنية على ثقافة الأجوبة المتصالحة مع عيش العوام.
وبالعودة إلى “أدب النكبات” فإن هذا المصطلح يبدو مفبركا وعديم المعنى إذا ما تأملنا في جوهره الإنساني، ذلك أن النكبات بمفاهيمها السياسية والاجتماعية وحتى ما تصنعه الطبيعة، لا يمكن لها أن تصنع فعلا إبداعيا إلا إذا اقترنت بنكبات ذاتية يعيشها المبدع ويواجهها كحالة وجودية قبل أن تصبح حدثا في صفحات التاريخ أو خبرا في عناوين الصحافة.