أدب الطفل الفلسفي أمن ثقافي يؤسس لمجتمع التساؤل

التفكير الفلسفي بين الكبار والأطفال يقاوم الوثوقية والركود.
الاثنين 2022/03/21
الفلسفة تبدأ منذ الطفولة (لوحة للفنانة سارة شمة)

لا يمكن التأسيس لمستقبل أفضل بمعزل عن الفكر، الفكر ليس ترفا ولا هو تسلية أو مجرد انعزال، إنه ما يضمن التجدد والتطوير وترسيخ التنوير مبدأ إنسانيا ضد الوثوقية والانغلاق والتعصب، وهو ما انتبهت له العديد من الدول العربية في السنوات الأخيرة.

أن تتنبه متأخرا خير من ألا تتنبه أبدا.. هذا ما يمكن للمتفائل بمستقبل الأدب الفلسفي في العالم العربي أن يهمس به لنفسه حين يلحظ اهتماما ملموسا بجدوى تطوير التفكير الفلسفي في المجتمع بمختلف مؤسساته وفئاته العمرية.

يأتي هذا بعد ردح طويل من أزمنة تحريم التفكير أو تحديد مساراته وخفض أصوات أقطابه على أقل تقدير، وذلك تحت ذرائع دينية وسياسية ورقابية تزعم “الحفاظ على قيم المجتمع وحمايته من النزعات الإلحادية التي من شأنها أن تفسد الأخلاق العامة” كما يقول أصحاب الفكر السلفي الذين سيطر بعضهم على المؤسسات التربوية والثقافية في بلدان عربية كثيرة.

الاهتمام بالتفكير

 حجم الاهتمام العربي بالفلسفة في المناهج التعليمية والإنتاجات الثقافية يضيق ويزيد من بلد إلى آخر ومن حقبة إلى أخرى (لوحة للفنانة سارة شمة)

اليوم، وبعد صحوة وإن جاءت متأخرة، أعاد أبناء سلالات ابن رشد وابن خلدون والفارابي التفكير في أهمية “التفكير”، وضرورة صنع “مجتمع التساؤل” بغية التصالح مع الإرث الثقافي والفلسفي من جهة، والانفتاح على أحدث المناهج التربوية والبيداغوجية من جهة ثانية.

الحقيقة أن حجم الاهتمام العربي بالفلسفة في المناهج التعليمية والإنتاجات الثقافية يضيق ويزيد من بلد إلى آخر ومن حقبة إلى أخرى، فبينما تتميز فترتا الخمسينات والستينات في مصر مثلا بالانفتاح على الفكر الحر كما هو الحال في كتابات طه حسين ونجيب محفوظ القادم أصلا من قسم الفلسفة في كلية الآداب، يضيق الخناق على التفكير الفلسفي في فترتي الثمانينات والتسعينات كما هو الحال في محنتي فرج فودة ونصر حامد أبوزيد.

ويختلف الاهتمام بالفلسفة من بلد إلى آخر في المنطقة العربية، فبينما شهدت تونس تميزا ملحوظا في تدريس الفلسفة ضمن المناهج التعليمية وانفتاحها على الأجناس الأدبية والفنية المختلفة بفضل الآباء المؤسسين للمؤسسات التربوية والثقافية عند دولة الاستقلال مثل محمود المسعدي والشاذلي القليبي وغيرهما من التنويريين، عرفت بلدان عربية أخرى انغلاقا مرعبا بسبب هيمنة الفكر السلفي أو الأيديولوجي كما هو الحال في ليبيا والجزائر وسوريا والعراق.

أما المملكة العربية السعودية فبعد فترة طويلة من هيمنة الفكر المحافظ إلى حد التشدد، ظهر تيار إصلاحي جارف، يشجع على العقلانية وينفتح على التفكير الحر ضمن رؤية إصلاحية شاملة يتزعمها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وفي هذا الإطار ظهرت الجمعية الفلسفية السعودية التي تشجع على التفكير الحر لما له من انعكاسات إيجابية في شتى مجالات التنمية البشرية.

ويؤكد رئيس الجمعية الباحث عبدالله المطيري ثقته بسيرورة الجمعية نحو غاياتها المرسومة، موضحاً إنجازها سبعة مشاريع، ورغم كونها جمعية ناشئة إلا أنها تسير في الطريق الصحيح كما قال.

وأدرك أصحاب القرار السياسي أهمية تقريب أهل الاختصاص والاستفادة من خبراتهم في المشاريع التنموية بدل إقصائهم وتهميشهم ظنا منهم أنهم قد يشكلون خطرا على الدولة، في حين أن العكس هو الصحيح، فـ”أن يعارضك مثقفون ومتعلمون أفضل بكثير من أن يعارضك جهلة وأميون” كما قال الزعيم الحبيب بورقيبة في معرض رده على سؤال يتعلق بجدوى إعطاء قطاعي التعليم والثقافة هذه الأهمية وخصّهما بجزء كبير من موازنة الدولة.

يتطور ويستمر هذا الاهتمام بالتفكير الحر في تونس رغم الكبوات التي عرفتها هذه البلاد، خصوصا في فترة اكتساح الإسلاميين وحلفائهم لمؤسسات الدولة في العشرية الماضية. لكن، ومع “عودة الوعي” للحياة الفكرية والثقافية في تونس، استفاق المشروع الإصلاحي من سباته واستعادت الحياة الثقافية زخمها بعد أن أدركت أن الاستثمار في الفكر الحر يجنب البلاد مخاطر السقوط في “الظلامية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية”.

بذرة الفلسفة

اليوم بعد صحوة وإن جاءت متأخرة، أعاد أبناء سلالات ابن رشد وابن خلدون والفارابي التفكير في أهمية التفكير
☚ اليوم بعد صحوة وإن جاءت متأخرة، أعاد أبناء سلالات ابن رشد وابن خلدون والفارابي التفكير في أهمية التفكير

استتباعا للمشروع التنويري في عملية إدماج الفلسفة ضمن الإنتاج الأدبي والنشاط الإبداعي افتتحت منذ أيام في مدينة صفاقس التونسية أشغال النّدوة العلميّة الدّوليّة “الفلسفة في الأدب الموجّه إلى الأطفال واليافعين: الواقع والآفاق”.

وتأتي أهمية هذه الندوة التي تشرف عليها مديرية الثقافة التي يترأسها مراد عمارة، في عاصمة الجنوب التونسي، من كونها تستجيب لدعوات كان أطلقها بيداغوجيون وتنادي بضرورة تدريس الفلسفة للأطفال في سن مبكرة وبمناهج مبسطة لتمكينهم من ملكة التفكير الحر وتنمية الحس النقدي لديهم.

ويؤكد باحثون متخصصون مشاركون في هذه الندوة على أنه عندما ننشئ حواراً بين الفئات العمرية المتفاوتة يصبح نسيج الأفكار
دوائر متقاطعة تخلق قلقاً معرفياً يعيدنا إلى جوهر السؤال الملح. لذا، فإن الحلقة الفلسفية بين الكبار والصغار تدعو الطفل لأن يعيدنا إلى الخلف، إلى ما قبل المعرفة التراكمية ويضعنا في مواجهة مع ما نعرفه وليس ما نبحث عنه.

 الحلقة الفلسفية بين الكبار والصغار تدعو الطفل لأن يعيدنا إلى الخلف، إلى ما قبل المعرفة التراكمية، لنواجه ما نعرفه

طفل اليوم هو رجل الغد، لذلك وجب التأسيس لمجتمع معافى من كل أشكال الغلو والتطرف عبر الاهتمام بـ”الفلاسفة الصغار” أي الأطفال الذين يطرحون الأسئلة الأولى دون أحكام مسبقة وبمعزل عن أي تضليل أيديولوجي أو عقائدي.

والموروث الأدبي على الصعيد العربي والإنساني عموما يزخر بقصص تحمل بذرة التفكير الحر وتناول القضايا الفلسفية الكبرى بأساليب مبسطة ومشوقة على غرار قصة “حي بن يقظان” للأديب والمفكر الأندلسي ابن طفيل، الذي طرح الأسئلة الوجودية الكبرى على شكل رواية كان قد تأثر بها كتاب كثيرون في التاريخ الإنساني، وصاغوا منها أعمالا خالدة على شاكلة “طرزان” و”ماوكلي” و”روبنسون كروزوي”.

أمر غريب أن يتناسى الأدب العربي مثل هذه الرواية الفريدة، يمحوها من ذاكرته ولا يهتم إلا للضحالة والأسلوب التلقيني المستهتر بعقل الطفل.

ومن هذا المنطلق تأتي ضرورة التدارك والإسراع بربط الطفل مع الجانب التنويري في تراثه الأدبي والحرص على أن يكون الفصل الدراسي مكانًا للتساؤل المحفز على التفكير، والإجابات المدروسة بدل ثقافة النقل التي شلت العقل العربي طيلة عهود طويلة من التحجر والاستكانة إلى الأجوبة الجاهزة.

لا يختلف اثنان في أن “مجتمع التساؤل” مكان آمن حيث يستطيع الأطفال تجربة الأفكار ويشاركون أقرانهم اكتشاف مضامين وافتراضات وعواقب هذه الأفكار.

 الحلقة الفلسفية بين الكبار والصغار تدعو الطفل لأن يعيدنا إلى الخلف

 

12