أدب الأقباط يتحول إلى أداة ضد التشدد

الأدب ميكرسكوب مجتمعي يرصد التغيرات ويوثق التحولات ويسجل الظواهر اللافتة. والأدب عين فاحصة عفوية تعاين الواقع وتفككه وتبحث في ما وراءه من أبعاد وظروف وتبدلات. وهذا ما يبدو جليا من خلال قراءة التطور الواسع في موضوعات روايات الأدباء الأقباط في مصر بعيدا عن تحولات المجتمع، وجنوحه أحيانا إلى استبعاد قيم المواطنة.
ثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل، مفادها أن الخطاب القبطي أو المسيحي، مثلما يصر البعض على تسميته، صار أكثر وضوحا لدى الأدباء المسيحيين خلال السنوات الأخيرة في مصر.
وبات الخطاب لامعا في معظم أعمال الروائيين والقصاصين الأقباط، بل ومعبرا عن قضايا وهموم الشخصية المسيحية العربية بشكل خاص، وما يعتمل لديها من شعور بالاغتراب المجتمعي، وإحساس بالتقهقر والضعف، ومجاهرة بالشكوى الإنسانية من الاضطهاد والتمييز والإزدراء.
تختلف هذه المسألة تماما عما كان مطروحا من قبل الأدباء المسيحيين، من جيل الرواد، ومن قضايا وطنية وقومية وإنسانية وهموم مجتمعية عامة، بدءا من كتاب القصة القصيرة الأوائل في العشرينات، مثل ميخائيل عبيد وشقيقه شحاتة عبيد، ومرورا بالأديب يوسف الشاروني، وغيره من الأدباء التاليين من الأقباط.
تحولات ثقافية ومجتمعية
يضع بعض النقاد أيديهم على التغيير الجاري ويعتبرونه كاشفا بصدق عن تحولات مجتمعية لافتة في المجتمع المصري الذي يضم أقلية مسيحية تقدر بـ10 في المئة من عدد السكان.
يبدي الناقد المصري مصطفى بيومي تحفظه على مصطلح قبطي للإشارة إلى المسيحيين، لأن القبطية هوية مكانية تشير إلى المصريين بشكل عام، لذا فهناك أقباط مسلمون مثلما هناك أقباط مسيحيون.
ويقول لـ”العرب” إن جانبا هاما من التغير في التناول يرجع إلى التحول الفعلي في المجتمع، ففي زمن الرواد لم تكن قضية الطائفية مطروحة بالعمق ذاته الذي ظهرت عليه في السبعينات وما تلاها، ولم يكن المجتمع المصري يعاني من صعود شعبوي للتيارات الدينية المتطرفة، لذا لم يكن غريبا أن يسهب أديب عربي مسيحي مثل جورجي زيدان في كتابة روايات تتناول تاريخ الإسلام نفسه، ولم يكن غريبا ألا نجد توجهات قبطية مميزة عند ميخائيل وشقيقه شحاتة عبيد في قصصهما.
كذلك، فإن كاتبا قصصيا مسيحيا مثل يوسف الشاروني استمر يكتب لنحو ستين عاما دون إنجرار مقصود للشأن المسيحي، لأن الهموم العامة كانت أكثر إلحاحا، كما أن التمييز بين المسلم والمسيحي لم يكن مطروحا في المجتمع، وبعد طرحه كان الشاروني اعتاد كتابته التي عاش عليها.
أما الروائي جميل عطية إبراهيم، والمولود سنة 1938، فقد عاش توهج إبداعه في ظل صعود التيار الديني خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات ما دفعه إلى أن يعبر بشكل واضح في بعض أعماله عن التطرف السائد وتبني الدولة المصرية في ذلك العهد لأول مرة لخطاب ديني رجعي، ثم تطور الأمر بشكل أكثر جرأة عند الروائي رؤوف مسعد الذي دخل بكافة مشاعره وأحاسيسه إلى عمق تجربة التمييز.
يلفت بيومي إلى أن تطور شكل المجتمع أدى إلى أن يصبح الخطاب في روايات الأدباء المسيحيين المعاصرين أكثر عمقا، وأشد صراحة، ودخولا في التفاصيل.
تزخر روايات الأدباء الأقباط المعاصرة بطرح واضح لهمومهم المتعلقة بالهوية الدينية وطرح متكرر لشكاواهم بصوت بعضه منفعل وبعضه الآخر هادئ، لكنه في المجمل يحمل الصدى ذاته، وهو الشعور بالتمييز المجتمعي.
في رواية “صياد الملائكة” للروائي هدرا جرجس، والصادرة عن دار الربيع العربي سنة 2014 نقرأ قصة حنا الشاب المسيحي الذي يعيش في جنوب مصر، ونقرأ الإزدراء في كل موقف يحدث حوله، بدءا من تجمع الزملاء في المدرسة وهو صغير حوله وهم يهددونه بالقتل إن لم يسلم، وحتى سماعه لأوصاف له كرهته في المواصلات العامة، ولكل مسيحي بدءا من كلمة “نصراني”، و”خواجة”، وحتى “كافر”.
رغم سلبية حنا المتسقة مع شعور عام يسود الأقباط المصريين بالانزواء وعدم الاكتراث، فإن المصادفة تلقي به في أتون مواجهة صادمة مع المجتمع عندما يستأجر عاهرة مثل أقرانه من الشباب ويعرف سكان الحي بذلك، فيحاصرون بيته لكونه مسيحيا ولا يجوز له إقامة علاقة مع مسلمة حتى لو كانت عاهرة.
تعرض بطل الحكاية للضرب المبرح وجرجر إلى قسم الشرطة لتستكمل أجهزة الأمن تأديبه ويسأله رجل الأمن بمنطق ساخر “ينفع كلب يتجوز قطة؟” ليخلص النص إلى أن المسيحي شخص آخر، ومختلف، وغريب، وأن نظرة المجتمع إليه ككل تحمل تمييزا.
يضع بعض النقاد أيديهم على التغيير الجاري ويعتبرونه كاشفا بصدق عن تحولات مجتمعية لافتة في المجتمع المصري الذي يضم أقلية مسيحية تقدر بـ10 في المئة من عدد السكان
قدم شادي لويس، في أولى تجاربه الروائية “طرق الرب” الصادرة عام 2018 عن “الكتب خان” بالقاهرة، حكاية مسيحي مصري يذهب إلى الكنيسة لاستخراج شهادة تسمح له بالزواج طبقا للإجراءات المتبعة في الكنيسة الشرقية، ويجد نفسه مضطرا إلى أن يحكي للقس سيرة حياته التي تنطوي على شعور عام بالانطواء ورصده لتفاصيل ما يواجهه الأقباط من معاملة سيئة من فئات في المجتمع ذي الأغلبية المسلمة.
في تصور الأدباء الأقباط أنفسهم، أنهم عبروا عن الشأن القبطي باعتبارهم أكثر دراية ومعرفة به، ولم يقصدوا في ذلك استخدام الأدب كمنصة لطرح شكاوى تخصهم أو التعبير عن مطالب تقترن بالأقباط وحدهم. ويؤكد بعضهم أنهم استغلوا المعرفة والمعايشة والانفتاح على الأسر المسيحية في تقديم قضايا جديدة لا يتطرق إليها كثيرون.
يوضح الروائي روبير الفارس أن التعبير عن الواقع القبطي ضرورة باعتبار أن الأقباط جزء لا يتجزأ من المجتمع المصري المعاصر. كما أن أي أديب يستقي موضوعاته من خلال مشاهداته المباشرة، والأدباء الأقباط مطلعون على وقائع لا يطلع عليها غيرهم بحكم انتمائهم الديني.
يبين الفارس لـ”العرب” أن ورود أخطاء عديدة في ما يخص شؤون الأقباط من روائيين معاصرين غير أقباط كتبوا عن أحاسيس ومشاعر وتساؤلات يعيشها الأقباط حفّز الكثير من المبدعين المسيحيين على الكتابة من أرضية معايشة حقيقية، لأن أهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل العربي.
في هذا الصدد، سئل الروائي الراحل نجيب محفوظ عما منعه أن يكتب رواية واحدة عن فلسطين، فقال إن الأدباء الفلسطينيين أكثر قدرة على كتابة ما عايشوه.
قضايا معقدة
يشير الفارس إلى جانب من أخطاء غير مقصودة لروائيين تناولوا الشأن القبطي لكنهم بعيدون عنه، منها مثلا رواية “مظلوم” للروائي المصري سعيد نوح، والتي تقدم شخصية راهبة إنجيلية ضمن شخصياتها، رغم أنه لا توجد راهبات من الإنجيليين.
هناك رواية أخرى تخلط بين طبيعة الكاهن والشماس في الكنيسة رغم وجود فروق جوهرية بينهما. والعبرة في النهاية للمستوى الفني، وهو الحكم والفيصل للحكم على النصوص الأدبية وليس موضوعاتها.
ويضيف أن استغراق أدباء الأقباط في تناول موضوعات قبطية لا يمنعهم من تقديم نصوص تتناول أوجاعا عامة للإنسان بعيدا عن هويته الدينية، وهو بدوره له قصة واحدة مترجمة إلى اللغة الإنجليزية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالهم القبطي.
يقدم مشروع روبير الفارس الإبداعي، في ثناياه الصراع المسيحي – المسيحي، ويطرح قضايا معقدة بشأن الزواج، والتحول من طائفة إلى أخرى، وبعض جوانب الفساد داخل المجتمع الديني المسيحي، ما يعد غير مقبول طرحه من أديب مسلم، الذي قد يتحرج في طرح تساؤل يضعه في محل الاتهام بالطائفية.
غير أن هناك من يرى أن استغراق بعض الروائيين المسيحيين في طرح واقعهم الاجتماعي يرجع في الأساس إلى اتساع حالة التطرف الديني لدى الأغلبية المسلمة مع حضور التيارات السلفية في الشارع في مصر، وذلك يرجع إلى تحول المجتمع من متسامح يعلي قيمة المواطنة إلى أحادي يعتبر المختلف دينيا غريبا.
يؤكد كمال زاخر، الكاتب المهتم بالشؤون القبطية، أن الحصار الذي فرضته الجماعات الإسلامية على مجتمع الأقباط في بعض الدول العربية، مثل مصر، أدى إلى دفعهم إلى الاحتماء بالكنيسة والتركيز الأكبر على هويتهم الدينية كرد فعل طبيعي.
ويلفت في تصريح لـ”العرب” إلى أن ذهنية الأجيال الجديدة من الأدباء المسيحيين تشكلت في بيئة انعزالية تواجه تمييزا ناتجا عن تمدد التيار الإسلامي وهيمنته على المجتمع العربي المعاصر.
وذكر أن الأجيال السابقة من أدباء الأقباط انصهرت في أحلام القومية وتشكلت ذهنياتها الثقافية في ظل بقايا الحقبة الليبرالية بتسامحها وتعددها السائد، فضلا عن ذلك، فإن هناك تساؤلات حرجة يطرحها الكتاب الأقباط ولا يمكن طرحها من نظرائهم المسلمين.