أحمد عباس.. بين السينما والشعر علاقة حميمة تشد أواصرها اللغة

رغم التطور الكبير الذي عرفه الشعر العربي أسلوبيا وفنيا وحتى على مستوى مواضيعه واهتماماته وأفكاره، فإنه ما زال يعاني من صراعات جانبية متعلقة بالشكل، فنجد أن شعراء القصيدة العمودية وشعراء قصيدة التفعيلة وشعراء قصيدة النثر، كلّ منهم ضد الآخر بينما كلهم هم الشعر. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر اليمني أحمد عباس، حول الشعر وصراعاته ورؤاه.
عدن- أحمد عباس شاعر استطاع أن يشق طريقه في المشهد الأدبي اليمني مسلحا بثقافة متنوعة، وحالة تسامح فريدة مع المدارس والتيارات الشعرية التي يقول إنه لا يزال ينهل منها دون تحيز، متنصلا من عقد المذاهب والأجيال الشعرية.
حالة التصالح تلك التي يبديها الشاعر ساهمت في تطور تجربته الأدبية وتوليد أشكال جديدة من الإبداع ظهرت جليا في أعماله الشعرية.
تكوين ثقافي
يتحدث الشاعر أحمد عباس لـ”العرب” عن بواكيره الأولى التي أسست ذاكرته الثقافية وكونت شخصيته والتحولات الاجتماعية التي أحاطت بمرحلة التكوين، فيقول “درست الابتدائية في القرية وكانت الثمانينات من القرن الماضي فترة استقرار نسبي في شمال اليمن وكان الاهتمام بالتعليم أهم سماتها، حتى على مستوى الأسرة التي كان تعليم أبنائها هو أهم أولوياتها، لا ينازعه شيء على الإطلاق، ومنذ سنواتي الأولى في الدراسة تعلقت تعلقا شديدا بالقراءة والمطالعة، ولم أكمل الابتدائية إلا وقد تحصلت على كم كبير من المعلومات من عدة مصادر قرائية، وحفظت عددا لابأس به من القصائد”.
ويتابع “عند انتقالي في بداية التسعينات إلى صنعاء تفتحت عيناي على عالم كبير ومختلف، بدأت أقتني فيه الكتب وأشتري الجرائد والمجلات، وأتابع الأفلام السينمائية بشغف، وكان ظهور الفضائيات بداية التسعينات عاملا مهما في نشر وإبراز أهم ما أنتجته السينما العربية والعالمية”.
ويشير عباس إلى أن مخزنا لإحدى أكبر المكتبات كان بجوار منزلهم، كان له بالغ الأثر في مساعدته ومده بمختلف الكتب بدءا من الدواوين والروايات وانتهاء بكتب التراث والكتب الدينية، مؤكدا بأن الحراك السياسي والثقافي الذي تميزت به صنعاء في التسعينات، ساهم في تكوينه بشكل كبير، فقد كانت المقايل التي يحضرها مع أبناء منطقته، كما يقول، تمده بثقافة سياسية واجتماعية كبيرة، فقد كان يحضرها عدد كبير من المثقفين والخريجين العائدين من مختلف الدول الشرقية والغربية، وكان يدخل معهم في نقاش دائم عن تلك البلدان وجغرافيتها ونظمها السياسية وأشهر أدبائها وفنانيها.
وعن تجربته الشعرية وبمن تأثر يقول عباس “َكنت مولعا بقراءة دواوين شعراء العصر الجاهلي، فحفظت المعلقات وعددا كبيرا من القصائد، بعدها بدأت أقرأ دواوين من مختلف العصور، وما أن وجدت ديوان المتنبي حتى دهشت بهذا الشاعر المعجز، فأدمنت قراءته وقراءة ما كُتب عنه عبر العصور”.
ويضيف “ما أن أكملت الثانوية حتى أصبحت قارئا محترفا، أقرأ في السياسة والجغرافيا والتاريخ بشغف ونهم كبيرين، لم أكتب الشعر إلا بعد الثانوية، ولم أحاول قبل ذلك أبدا رغم أنه كان أحب شيء إلى نفسي، كأني كنت أنتظر وحيا من السماء، ولا أستطيع القول إني تأثرت بشاعر معين، لكن يمكنني القول إن مجمل ما يقرأه الشاعر يكون له دور في تكوينه وتخلّقه شعريا”.
ويقول عباس إن فترة دراسته في كلية الآداب بصنعاء التي كانت معقلا للحركة الأدبية اليمنية في تلك الفترة، كانت بمثابة رحلة جديدة نحو آفاق القراءة والتحصيل، حيث تطور مفهومه للشعر مع احتكاكه بشعراء من مختلف المدارس الشعرية، ومع دخوله قسم اللغة العربية بالذات.
التمرد على القوالب
ساهم تحرر الشاعر أحمد عباس من قوالب المدارس والتيارات الشعرية في منحه فرصة أكبر للتعبير عن ذاته الإبداعية بالأدوات الثقافية المتاحة التي اكتسبها وعن الشعر العمودي والشعر الحر وقصيدة النثر ولأي اتجاه يميل، يقول “العالم دون شعر خراب وخواء، فالشعر فضاء رحب يتسع لأحلام العالم كله، فلا يجب حصره وسجنه في شكل معين ولست مع التعصب لأي شكل شعري، فالشعر هو الشعر تحت أي شكل من الأشكال، والدخول إلى عالم القصيدة عروج في سماوات عليّة لا أبواب لها ولا اشتراطات، هذا ما خلصت إليه الآن، أما في بداياتي فقد كنت متعصبا للعمود بشكل كبير شأني شأن كل الشعراء الذين لم يذوقوا حلاوة قصيدة النثر ومدى تحليقها في عوالم لا حدود لها ولا مقيدات تكبلها”.
وقد ظهر تأثر عباس بالشعر التقليدي جليا في ديوانه الأول “ضمّدتَ جُرحك”، الذي صدر في صنعاء في العام 2012، حيث كانت معظم قصائد هذا الديوان عمودية وعدد قليل منها من شعر التفعيلة والنثر، وقدم للديوان الشاعر عبدالعزيز المقالح، فيما صدر ديوانه الأخير “طوارف” في القاهرة 2018 واتسم الديوان بأنه مزيج من قصائد العمود وعدد كبير أيضا من قصائد النثر.
عن محافظته على الشكل العمودي في كتابته الشعرية يرى الشاعر أن “العمود يظل متنفسا رائعا وجميلا لا غنى عنه أبدا، وأن الشاعر الذي يكتب العمود هو الأقدر على كتابة الأشكال الأخرى كقصيدة النثر والتفعيلة”.
ويضيف أنه بعد سنوات من القراءة والاطلاع على مختلف التجارب الشعرية وسنوات من اللجوء والتشرد، والبحث عن الوطن، أصبح أكثر ميلا لكتابة قصيدة النثر التي أشعر تجاهها بالتماهي بعد رحلة حافلة من صنعاء إلى القاهرة.
يشدد الشاعر اليمني على وجود علاقة حميمة بين بالسينما العربية والأدب في سياق تفسيره لحالة العشق التي تربطه بالسينما كمتابع نهم ومدى تأثير السينما العربية في تجربته الإبداعية.
يقول عباس “هناك علاقة بين السينما والأدب، فالفيلم في الأساس هو رواية أو قصة أدبية، ولغة السينما لغة شعرية إلى حد ما من حيث الانزياح والكثافة والرمز، فقد تتحول الصورة السينمائية إلى مجازات وكنايات ورموز، لكن الجميل في الشعر أن المتلقي يساهم في تشكيل الصورة ورسمها أثناء تخيله للصور التي تشكلها الكلمات، أما السينما فهي عملية إبداع جماعي بين المخرج والمؤلف والممثل والفنيين، يشكل تناغمه ما يشبه القصيدة، ومما لاشك فيه أني استفدت من مشاهداتي السينمائية الكثيرة والمتنوعة والتي أعتقد أنها أصبحت جزءا من موجّهاتي الشعرية، فيكفي أن أقول “إن ما يقرب من ستين فيلما عربيا هي مأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ، ناهيك عن كبار الكتاب العرب الذين تحولت أعمالهم ورواياتهم إلى أفلام”.
الحراك السياسي والثقافي الذي تميزت به صنعاء في التسعينات، ساهم في تكوين أحمد عباس بشكل كبير
في سياق حديثه لـ”العرب” يشير عباس إلى انعكاسات الحرب على الحالة الثقافية الراهنة في اليمن انطلاقا من تجربته الشخصية كشاعر عانى من ويلات الحرب، وهو يؤكد أن الثقافة هي الحلقة الأضعف في الصراعات، مضيفا “المثقف الحقيقي يعيش حالة القلق في الظروف الطبيعية، ما بالك والبلد يمر بحالة من التشظي المرعب، والتمزيق الممنهج الذي تدل عليه ممارسات القوى التي لا تؤمن بالأوطان ولا بالهويات والتي تحركها أيدولوجيات عابرة مدمرة لكل ما هو يمني، فالمثقفون والشعراء يعتصرهم الألم من كل جانب، فظروفهم المادية في غاية الصعوبة، وخوفهم على بلدهم وما آل إليه يزلزل كياناتهم”.
ويسترسل “في هذا الوضع أصبح المثقف هو أكبر الخاسرين من كل النواحي، فعملية الاستقطاب على أشدها، وللأسف تحت ضغط الحاجة والعوز التي يعاني منها المثقف، نرى عددا لا بأس به من المثقفين لم يجدوا بُدّا من الخضوع والخنوع لسلطة فصيل لايمُتّ للدولة بأي صلة، لا يستطيعون الفكاك منها، وعدد آخر انحرف بهم المسار عبر إيمانهم بأيدلوجيات عفا عليها الزمن وتجاوزتها الأمم المتحضرة، وأصبحوا أصواتا نشازا تناصر الباطل وفي أحسن الأحوال تدعي الحياد الأشد من القتل من وجهة نظري، بينما المثقف الحقيقي انكفأ على نفسه يحاول الخروج بأقل الأضرار النفسية والمادية، أما المؤسسات الثقافية المنوط بها تحقيق الحد الأدنى من متطلبات المثقف فهي في موت إكلينيكي تقريبا”.
ويسرد الشاعر عباس عددا من الآثار التي خلفتها الحرب اليمنية وتأثيرها النفسي على الأدباء اليمنيين، يقول “ما يحدث الآن سيعبر عنه بشكل أفضل وأكثر نضجا بعد انتهاء الحرب، فالكتابات التي تخرج متزامنة مع انطلاق القذائف تكون مرتبكة ومذهولة وتكون ردة فعل آنية وانفعالات أكثر منها كتابة واعية تعبر عن عمق ما يجري وماهيته، والشاعر ليس مؤرخا يدون الأحداث ويحصي المعارك، وظيفته أكبر من ذلك بكثير، ومع هذا نجد عددا من الشعراء يقاومون ما يتعرض له الوطن وما يتعرضون له أيضا بشجاعة وقوة وينتجون شعرا جميلا يعبر عن وضعهم ووضع بلدهم“.