أحلام مستغانمي تخفي كتاباتها عن أبيها

لا تقتصر السير الذاتية على حياة كاتبها، بل تتقاطع مع غيره، بداية بعائلته ثم مجتمعه، وتلتقي الأحداث الخاصة بالأحداث العامة، وبالتالي فإن السير قراءة يتداخل فيها الذاتي مع ما هو خارج الذات. وهذا ما ينطبق على السيرة الروائية للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي.
تمثل النصوص الإبداعية جانبا من حياة صاحبها وتعكس رؤيته للمعطيات الواقعية وما يعاينه في عصره من حركة محتدمة تلقي بتأثيرها العميق على الوعي، وتساهم في نضج الإدراك بتركيبة بيئته الاجتماعية والسياسية والثقافية.
غير أن ما يتم تقديمه من خلال الأعمال الأدبية قد لا يكشف النقاب عن كل شيء، لذلك فإن البحث عن صورة الكاتب سيكون مستمرا خارج مضامين إصداراته. ومن هنا تحظى الحوارات المنشورة مع المبدعين باهتمام المتلقي، لأنها تفسح المجال لمعرفة وجه آخر من تكوينهم المعرفي وحيثيات المكابدات الناجمة عن الاصطدام المضني بالأنساق التقليدية، وما يمكن أن يكلف القفز فوق الأسيجة من الأثمان الباهظة.
إن تغطية المحطات الإبداعية والتحديات الحياتية تتخذ بعدا أوسع في المواد السيرية بشقيها الذاتي والغيري. إذ ينشر المتكلم أوراقه على حبل السرد محددا ما يناسب السياق من الضمائر. وفي هذا الإطار أرادت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي الإيحاء بما ينبسط في سيرتها من عتبة العنوان “أصبحت أنت”، إذ يكون أفق التوقع مستنفرا لرصد محتويات خطاب ثيمته هي رؤية الكاتبة لحياتها الشخصية وللمرحلة التي عاصرتها في آن واحد.
وما يتبادر إلى الذهن بمجرد مقابلة تلك العبارة المكونة لعنوان الكتاب، الصادر عن دار هاشيت أنطوان، من الجملة الفعلية المضمرة لدلالة الصيرورة، هو أن حياة الكاتبة كانت حافلة بالمواقف المفصلية. وعلى غير ما هو سائد في المؤلفات السيرية، إذ تحتل ملفوظات “حياتي” أو “السنون” أو “ذكرياتي” موقع العنوان، فإن مؤلفة “ذاكرة الجسد” تثبت على الغلاف مفردة لا تخلو من الرغبة في كسر التقليد. كما أن العلامة التجنيسية تبدو مراوغة “سيرة روائية”، كأن الغرض من ذلك هو التحرك بالرشاقة على أرضية التخييل، مع أن أحلام مستغانمي لا تتوانى عن التوثيق للأحداث التي تسردها بالتاريخ والتفصيل في ذكر المشاركين في تشكيل المصائر.
صورة الأب
تتشابك سيرة الكاتبة مع الوقائع الفارقة التي عاشتها الجزائر إبان عهد الاستقلال، ومن المعلوم أن حركات التحرر الوطني قد شهدت مرحلة العنفوان عقب الحرب العالمية الثانية. وكانت الجزائر ملهمة بنضالها البطولي للشعوب المقهورة، وسخية بتضحياتها لدحر الاستعمار الجاثم على ترابها. إذن فمن الطبيعي أن تستعيد مستغانمي مشاهد من صميم الواقع الثوري لأنها واكبت الآمال الفتية التي لولاها لما استجاب القدر لإرادة الشعب، كما طالتها تبعات أخطاء كبيرة، باتت عرفا متجذرا في المشاريع الثورية، إلى أن أصبحت الأخطاء الكبيرة صنوا لثورات كبرى.
تترأس بدايات كل فصل من المادة السيرية جملة، تستشف منها ما تبوح به الراوية بالضمير الأول في الحزمة السردية. وما إن تقص الكاتبة شريط السرد حتى تستحضر الأب محيلة إلى الشخصية التي كانت تتقمصها إذ تتخيل وهي بصدد استنهاض الذاكرة أنها قد انساقت إلى محاكاة “شهرزاد” عندما كانت تروي مساء تفاصيل يومها.
لم يعد هناك ما هو طي الكتمان بين الإثنين (الأب وابنته) سوى ما كتبته الابنة وذلك لحاجز اللغة لأن الأب كان مقيما في لغة المحتل الفرنسية. تعود أحلام إلى لحظة رحيل الأب مسترسلة بأسلوب مشحون بالعاطفة في الإبانة عن قساوة الغياب. والمؤثر في هذا الإطار هو اعتراف الكاتبة بأنها تعمدت إخفاء كتاباتها عن الأب حين كان الأخير على قيد الحياة والآن في غيابه ما عاد لديها أمل في أن يقرأ ما ينشر لها، وهذا ما يعمق الشعور بالأسى.
هنا تقع على قولة لامارتين: “شخص واحد ينقصك وإذا بالدنيا مقفرة لا أحد فيها”، وعلى منوال ذلك تكتب مستغانمي مخاطبة الأب “كل كتاباتي تنقصها دهشتك. كل نجاحاتي ينقصها زهوك”، وتكشف في ذات السياق عن أواصر بين بطل روايتها “ذاكرة الجسد” والأب الغائب، معلنة أن كل الدموع والأحزان على خالد وعلى قسنطينة كانت الرسالة والغاية منها إبلاغه بما حل بعده.
تعلن الكاتبة أنها تمنت لو تصادف بين من بادلتهم الحب شخصا تمكن من تصحيح الأخطاء في رسائلها كما كان يفعل الأب، إذ لم يتغافل عن تصحيح أخطاء إملائية في رسائلها وهو راقد في المستشفى بباريس. ومن ثم يعيد إرسالها إلى الابنة. إذن اليتم برأي أحلام هو أن تخطئ ولا يصحح لك أحد. وفي هذا المفصل تشير الكاتبة إلى الخوف من الكتابة وإلى أنها توجست في البداية من أن الكاتب تشي به كتاباته إلى أن تتأكد بأن الحقيقة تكمن فيما يمحى لا فيما يكتب.
لا يوازي تغلغل صوت الكاتبة في النص سوى حضور طيف الأب وذلك ما يستدل به من العنوان. فتسلل أسماء مشاهير الأدب أمثال فيكتور هيغو ولامارتين وفولتير إلى أجواء السيرة يكون عبر ذكرى محمد شريف المستغانمي. لا ينفصل الزمن الذاتي في المروية السيرية عن الأحداث التي طبعت العهد الجديد في الجزائر وبالتالي يتقاطع الزمن الذاتي مع الأزمنة المجتمعية، وأحد أسباب هذا التشابك الزمني يعود إلى انخراط الأب في الحركة الثورية، كما أن بعض اللحظات في حياة أحلام كانت متزامنة مع تحولات مؤثرة على المستوى السياسي.
شاء القدر أن تزور الراوية لأول مرة مستشفى مايو العسكري حيث يعالج الأب في نفس الوقت مع الانقلاب على أحمد بن بلة، وهكذا ينتقل الأخير من سدة الرئاسة إلى السجن، غير أنه هذه المرة يكون سجينا في عهدة أصدقاء الدرب. ويعني ذلك أن الثورة بدأت تأكل أبناءها وما أنقذ الأب من هذه الموجة التي أودت بحياة عدد من رفاقه هو وجوده في المستشفى بعدما افترسه القلق وأثقلت الكوابيس حياته إلى أن تبدت أعراض الجنون جراء محاولة اغتياله بيد جزائرية.
وعلى الرغم من محاصرة الأب في المستشفى وانقطاعه عن العالم فإن أحلام لا تنقطع عن زيارته مستعيدة تفاصيل الأيام التي كان يمضيها محمد شريف وهو يصارع شبح الانهيار. ويتكتم على حقيقة جرحه بالتظاهر بأن ما يعانيه هو نتيجة الصدمة العاطفية.
تزداد في العزلة قيمة أشياء تفتح كوة مع العالم وهذا ما يفسر توق الأب لمتابعة الجرائد وانكبابه على الكتابة في دفترين، وبذلك تخف وطأة أشباح الوحدة ويتحول الحصار إلى فرصة للكتابة، ومستنده لهذا الاختيار هو أن معظم الأعمال العظيمة كُتب في السجن. كما أن مفعول الكتابة أجدى من الأدوية التي يتعاطاها المريض، هنا يذكّره الطبيب الفرنسي بكلام جورج باطاي الذي صرح بأنه يكتب تفاديا للانزلاق نحو الجنون.
إن أحلام تجوس في خفايا شخصية الأب وهو ليس نسخة أحادية بل تراه في صورة المناضل الذي كان يجمع الأموال لدعم الثورة تارة، ويمتهن التدريس في تونس تارة أخرى، ومن ثم يتفرغ للاهتمام بوضع المزارعين ومشروع التسيير الذاتي في عهد الاستقلال، حيث كانت للبعد الثقافي منزلة في حياة الأب وهو يغامر بتكوين مكتبة كبيرة.
ويتصاعد الحس الوجداني في المفصل الذي تتناول فيه الابنة مكتبة الأب وما ستؤول إليه بعد مغادرتها إلى باريس، ذاكرة في ذات المنحى أن العلاقة بالكتب تضاهي العلاقة العاطفية، فقد تقرأ عناوين كثيرة لكن لا يستهويك إلا كتاب واحد. وتغرم أحلام برواية "زوربا" التي تجدها في مكتبة الأب بين لفيف من الكتب الفرنسية.
عصر أيقوني
لا شك أن ما يضفي قيمة كبيرة على سيرة المبدع هو المفاصل التي يسرد فيها بداية مرحلة التكوين، لأن المستقبل الإبداعي هو امتداد للنواة الأولى من العناوين التي يتعرف من خلالها على عوالم موازية ويتم القبض على مفاتيح لفضاء مغر بالاكتشاف. تتوارد في طيات هذا النص السيري خطابات رديفة بصيغة المقتبسات لكبار الأدباء العرب والأجانب، الأمر الذي يؤكد وجود خلفية معرفية زاخرة في شخصية الكاتبة.
لكن لا تفرد أحلام مساحة للحديث عن العناوين والكتب التي تغذت منها الذائقة الإبداعية وأنشأت حسها المعرفي على غرار ما تلاحظ ذلك لدى فرانسواز ساغان أو لطفية الدليمي أو سحر خليفة. جل ما يسجل في هذه الحلقة ليس أكثر من تلميح إلى أحد أصدقاء الأب الذي أقنعها بأن تغدو روائية. لا يشق على المتلقي إدراك أن أحلام تحن إلى بداياتها الشعرية وهي كانت في التاسعة عشرة من العمر عندما نشرت مجموعتها الشعرية الأولى "على مرفأ الأيام"، وقد تكون هذه العودة إلى الشعر محاولة للتماهي أكثر مع شخصية الأب لأنه كان شغوفا بهذا الفن.
وفقت صاحبة "الأسود يليق بك" في استجلاء بداية انطلاقتها الشعرية بإيجاد بنية متجاورة بينها وبين الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، فكلاهما كان متأرجحا بين الولاء للشعر والانحياز للأم. ويستمد النص عناصر التشويق من حيويته ومخالفته لتوقعات القارئ، والمألوف من السيرة الذاتية أن تدور حول التجارب والمشاهدات المسرودة من زاوية “أنا” الفاعلة في الحدث. ولا يخرج ما كتبته أحلام مستغانمي عن هذا الخط غير أن ما يكسب مرويتها السيرية خصوصية ونغمة غير تقليدية هو التمكن من استبطان روح العصر عبر رموزه وأيقوناته.
◙ ما يكسب هذه المروية السيرية خصوصية ونغمة غير تقليدية هو التمكن من استبطان روح العصر عبر رموزه وأيقوناته
وحين ترتد بالذاكرة إلى أول عيد للاستقلال تدير العدسة نحو ثلاث شخصيات كانت بصماتها ماثلة على خارطة القرن العشرين؛ غيفارا بثوريته المتجددة وبن بلة بتلويحة النصر وعبدالحليم حافظ بصوته الخلاب. وقد احتفل هؤلاء مع الشعب. وتؤكد أحلام على هذا التفرد الزمني لأنه لم يحدث أن اجتمع كبار بهذا العدد في زمن واحد، فالعالم قد دخل إلى حالة حب جماعية لأيقونات الحرية والثورة، لذلك كانت العاطفة متأججة بمزاج ثوري.
وتعتقد أن الأب قد وقع في غرام ناتاليا لأنه قد وجد فيها صورة للبطلة ليبا رادتيش مثلما أحب العرب كل جزائرية كما لو كانت نسخة لجميلة بوحيرد. ويتكرر هذا النفس العاطفي في تجربتها الشخصية فأحبت المدرس المصري لأن ملامحه تجمع بين صورة عبدالحليم وعبدالناصر وما إن ينتهي الزمن المصري حتى تبدأ الحقبة العراقية مع مجيء أستاذ الرياضيات، والطريف أنه حاول مغازلة أحلام بعدما فقد الأمل في صديقتها. طبعا هذا يقودنا إلى دور الأنموذج المثالي في التوجيه الذهني والنفسي للأجيال.
وما يشد الانتباه أكثر أن الكاتبة في متابعتها لمعاناة الجزائر مع الاستعمار والتنكيل بالشعب لا تتجاهل مواقف فرنسيين كانوا مؤازرين لحرية الجزائر ودفعوا ثمنا باهظا، ومنهم موريس أودان الذي لفظ أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب، كما تم التمثيل بجثة هنري ماثو لأنه هرب بالأسلحة إلى الثوار. وأعدم فيرناند إيفتون، ومن جانبه نشر سارتر "جميعنا قتلة"، وهم من الصفوة المناهضة للإرادة الاستعمارية.
ولا تصرف أحلام مستغانمي النظر عن المظاهر المخيبة للأمل في مرحلة الاستقلال، ولعل ما يشير إلى الملمح النقدي هو كلامها الصريح بأنها انتظرت ثلاثة عقود لتصليح مصعد المبنى الذي أقامت فيه فإذا بها تتفاجأ بأن جميلة بوحيرد تسكن أيضا في الطابق الحادي عشر في أحد المباني ومصعدها معطل. قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا النص سيرة لحياة أحلام مستغانمي غير أن ما ينجلي عنه الغموض الذي يبثه العنوان أن الكاتبة تروي مسيرة الأب وهي تعلن أنها قد حذت حذو الغائب، وبهذا تنحو حركة الكتابة منحى دائريا.