أحداث لا تعني سوى كاتبها لكن القارئ مجبر على التلصص

لأول مرة نجد أنفسنا بصدد رواية نرويجية فريدة من نوعها، وعمل خاص جدا، تحتاجُ قراءته للكثير من الصبر والرغبة بالغوص في عوالم الآخرين وحيواتهم، إنها مزيج داخلي وخارجي بين الجغرافية المكانية للقرى وجغرافية النفس البشرية التي عبَر بها الكاتب من خلال انزياحات غرائبية وممكنة الحدوث في وقت واحد، حيث يتتبع مسارات الحياة الفردية بصدق خارج الأنماط الروائية المتعارف عليها.
السبت 2018/01/20
كاتب يبحث في التفاصيل المنسية لبناء عمل روائي

كاتب معروف في الشمال الأوروبي، وعمل روائي يعزز مكانته، هذا ما أفصح عنه النقد الأدبي بصدد رواية الكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد، {كفاحي، موت في العائلة} والتي ترجمها السوري الحارث النبهان، هي الرواية النرويجية الأولى التي تقع بين يدي باللغة العربية، وجدتُ قبل قراءتها الكثير من التعليقات المتناقضة حولها، خاصة فيما يتعلَّق بالخصومة القضائية التي نتجت عقب إصدار الكتاب بين المؤلّف وعائلتِه لأبيه بعد أن تحدث عن الكثير من التفاصيل التي وجدتها العائلة مسيئة لها.

دهاليز السرد

الرواية، الصادرة للمرة الأولى بالعربية عن دار التنوير، غرائبية مبنية في جوهرها على تعدد الأصوات في الحكاية رغم استحضار ضمير السرد الواحد في صوت “الأنا” الذاتية، لكنها “أنا” تتَّسِعُ من نقطة السرد الأولى نحو عوالم لامتناهية تتردد أصداؤها في الثقافات المختلفة اليوم، بعد أن تمَّت ترجمة هذا العمل إلى أكثر من عشرين لغة حيَّة.

يمكن اعتبار هذا النص رواية خاصة جدا لا بد أن تتم قراءتها بتأن شديد، حيث تدخل في دهاليز ومسارات مشهدية في معظمها بعيدة كليا عن الذهنية العربية من حيث الجغرافية أولا وأسلوب وسلوكيات الأبطال من جهة ثانية، لكن قبل البدء بذلك من الهام أن نستعرض سيرة المترجم الذي قادَته الأقدار لنقل هذا العمل الذي تُرجِمَ قبل العربية إلى أكثر من عشرين لغة حيَّة، وهذا ما يضعنا أمام تساؤل عن جديَّةِ دور النشر العربية أو المؤسسات المُشتَغلة بالثقافة في ترجمة الأعمال المدفونة في اللغات الأخرى قبل ذياع صيتها؟

الحارث النبهان مترجم سوري يقيم الآن في بلغاريا، بدأ حياته الأكاديمية بدراسة تصميم الآلات كفرعٍ من الهندسة الميكانيكية، لكنه ما لبث أن اعتقل في منتصف الدراسة الأكاديمية، ليدخل السجن بذريعة تهمة سياسية حيث أمضى ما يقارب أربعة عشر عاما، وهناك في المعتقل كان لديه فائض من الوقت كي يركِّزَ اهتماماته بمساعدة معتقلين آخرين على اللغة الإنكليزية، وما إن تم الإفراج عنه عام 1998 حتى استأنف عمله في الترجمة فأنجز كتابا عن العولمة وعدة

مسرحيات ثم أضاف إلى المكتبة العربية رواية جورج أوريل الشهيرة “1984”، “اختراع التقاليد” لإريك هوبزباوم، “حب وقمامة” لإيفان كليما، “الشفق” لستيفاني ماير، وغيرها.

هذا النوع من الكتابة لا يلتزم بشكل البناء الروائي الذي تعرفه المدارس الأدبية، أو تلك التي نظرت لكتابة الرواية

إطلالة على الموت

“كفاحي، موتٌ في العائلة” تمثل الجزء الأول من سلسلة بدأت بالصدور بهذا الجزء عام 2009. يبدأ المؤلف بناء النص بعتبة تتحدث عن الموت، يصف الموت كما لو أنه فعل لا علاقة للإنسان به، حالة طارئة تصيب القلب فتدفعه للتوقف، القلب الذي اشتغل لسنوات طويلة دون أن يعي لماذا يفعل ذلك يتوقف فجأة، فيتحول الجسد الذي كان يضج بالحياة إلى جزء عدمي من هذا الوجود العدمي أيضا حسب طرح كناوسغارد الذي لا يتلطى خلف عبارات حمَّالة أوجه، إنه يقول ما يريد وبالشكل الذي يريد.

يقول “بالنسبة إلى القلب، الحياة أمرٌ بسيط: ينبض طالما ظلَّ قادرا على النبض، ثم يتوقف!، عاجلا أو آجلا، ذات يوم سوف يتوقف هذا الفعل السابق من تلقاء نفسه، وسوف يبدأ الدم انسيابه صوب أخفض نقطة في الجسم حيث يتجمّع في بركة صغيرة تظهر من الخارج على هيئة بقعة طريّة قاتمة على جلد ازداد بياضه، وبينما تنخفض درجة حرارة الجسم سريعا، تتيبَّس الأعضاء وتفرغ الأمعاء ما فيها، تجري هذه التغييرات بطيئة في الساعات الأولى، وهي تحدث بطريقة عنيدة يكاد يكون فيها شيء شعائري، كما لو أن الحياة تستسلم طبقا لقواعد محددة، قواعد تكاد تشبه اتفاقا وديا يلتزم به ممثلو الموت أيضا”.

رواية خاصة جدا

تهشيم روائي

“ينظَرُ إلى هذه الرواية كحدث عالمي، إذ يجري الحديث عنها كتحفة أدبية في كل مكان تُنشَر فيه، حارقة في صدقها، تجعل قارئها مدمنا عليها”، هكذا قدَّم الناشر لرواية “كفاحي، موت في العائلة”، التي تبدأ بمشهد جنائزي لأب ممدَّد في الكنيسة بعد موته. فعل الموت هذا يطرحه المؤلف بصورة جزئية ارتباطه بحياة الآخرين، هناك خيط رفيع من نقطة الانطلاق في التنفس إعلانا ببدء مسيرة الجنين، ونقطة التوقف التي يُعلِنها القلب أولا، وبينهما يسير كارل أوفه كناوسغارد المولود في أسلو في السادس من ديسمبر للعام 1968 في طرُقٍ تعتمد على نقل التفاصيل، تفاصيل الحياة العادية التي تحمل من التعقيد ما يجعل منها أمرا في غاية الصعوبة رغم سهولتها، ولتحقيق هذا البوح الأخاذ استحضر الكاتب ضمير الأنا المتكلم، مبتعدا عن بنى درامية معقدة، فجاء السرد سلسا غارقا في الأحداث التي عاشها الطفل والشاب والرجل الذي حاول مرارا فهم ماهية الحياة والموت معا، ولتحقيق هذا أيضا يبدو الكاتب مستمتعا بتداعيات الذاكرة عن تحولات حياته وقناعاته.

هذا النوع من الكتابة لا يلتزم بشكل البناء الروائي الذي تعرفه المدارس الأدبية العالمية، أو تلك التي نظَّرت لكتابة الرواية، إنه تهشيم حقيقي لكل ما هو معروف أو متَّبَع، وقد مارسه كتَّاب آخرون بعدة ثقافات، فتأتي الكتابةُ على شكل سيل من الأحداث التي لا تعني أحدا سوى كاتبها، إلا أن القارئ يُطلُّ عليها كمتلصِّص يجمعُ تلك الحكايا ليعيد إنتاجها بما يقابلها من حياته الشخصية أو حياة من يحيطون به، لذلك يجد المتلقي هذه القصص قريبة منه، خاصة تلك التي تتعلق بآراء شخصية يمكن تعميمها كمحبة بعض الألوان أو الأطعمة أو شكل العلاقات الإنسانية.

14