أبي أفضل النقاد

مازلت أعتقد أن أبي أفضل النقاد رغم أنه لم يقرأ حرفا ولا فكّ خطا، لكنه اختص في نقد الوجبات التي تعدّها والدتي على مدى نصف قرن من الزمان.
كان لا يتكلم مديحا ولا ذما قبل أن يتناول وجبة الغداء التي يحبها فيقبل عليها بنهم، ليتكأ بعد أن يشرب الشاي معددا مساوئ الطبخة من البهارات حتى مقدار الملح والزيت وما إلى ذلك، وكأنه “شيف” مختص حاصل على نجمة ميشلان الشهيرة.
أعتبر والدي ناقدا فذا لأنه كان يتناول الوجبة كلها وهو الأهم في العملية النقدية برمتها، وأذكر أنه حين يكون رائقا يدندن أغنية أم كلثوم بتصرف، “مخطرتش على بالك يوم تغديني عندك”.
يشبه بعض الصحافيين الذين يحضرون المهرجانات أبي في التهامه كل الوجبة، تراهم في المهرجانات الصيفية بشاراتهم المعلّقة على صدورهم، هم “أَنْيَقُ” الحاضرين، وأكثرهم تصدرا للحفلات، لكنهم يخالفون قاعدة والدي، لا ينقدون ولا ينتقدون.. يجاملون ولا يعادون لذلك لا يكتبون تحليلا ولا رأيا ولا حتى وصفا للحدث، ينشغلون عن ذلك بصور السيلفي ومقاطع الفيديو المباشرة التي ينقلون فيها مشاهد لهم متباهين بها على مواقع التواصل، وفي أنفسهم يقولون “اليوم نحتفل وغدا نحتفل”، ثم لماذا ولمن نكتب ونحن لسنا بصحافيين ولا نقاد فن، فقط جاد علينا “الطيبون” بشارات (بادج) دخول.
أبي كان عكسهم، لا يذهب إلى الولائم في الأفراح ولا في الأتراح.
◙ بعض الصحافيين الذين يحضرون المهرجانات يشبهون أبي في التهامه كل الوجبة، تراهم في المهرجانات الصيفية بشاراتهم المعلّقة على صدورهم، هم "أَنْيَقُ" الحاضرين، وأكثرهم تصدرا للحفلات، لكنهم يخالفون قاعدة والدي، لا ينقدون ولا ينتقدون
هؤلاء كرماء بما ليس لهم أيضا، فهم لا يبخلون على عائلاتهم ومن حولهم من معارفهم وأصدقائهم من “عزومة” على الحفل طالما بـ”بلاش”، فالمهرجانات أصبحت مسرحا للتباهي ولا علاقة لها بالذوق منذ غاب عنها الفنانون الحقيقيون وحضرت الظواهر.
هناك من يكتبون ويتعبون حتى ينزّ العرق من أقلامهم، غالبا تجدهم خارج حلبة ولائم المهرجانات، لكن ماذا سيكتبون “والجنازة حامية والميت كلب” على رأي التونسيين الذين يدفعون الضرائب.
جنازة مهرجان قرطاج بدأت قبل أوانها، منذ لجنة الاختيار، ثم بحفل لتهذيب التراث، وهل يحتاج التراث الذي عملت عليه الشعوب أجيالا وليالي إلى تهذيب.
بدأت الليلة الأولى بمحفل مقتبس من سهرات الأفراح في قرانا وسُرق من هذه المناسبات الصدق وكرم الضيافة وغاب عنها فطاحل الفن الشعبي.
في قريتي مثلا حين تحضر عرسا تشبع فنا شعبيا بعد أن تشبع بوجبة عشاء ثم تشرب الشاي والماء البارد في الصيف الحار.
منذ اليوم سأسمي سهرات كل عرس في قريتي مهرجانا.
أما سهرة الليلة الثانية فلا أظن أن الفكاهي الفرنسي عزالدين جيلاني والمعروف باسم “أزاد” يجيد الكلام “الزائد” أي البذيء أكثر من التونسيين، فمن يترجم له مثل العرب “كمستبضع التمر إلى هجر أو خيبر”.