أبناء يقابلون عطاء آبائهم بالجحود

تنكر الأبناء وعدم وفائهم لجهود الآباء يقوضان العلاقات الأسرية.
الاثنين 2020/11/30
نكران الأبناء لتضحية آبائهم يحز في نفوسهم

يقابل عدد من الأبناء عطاء آبائهم اللامتناهي بالجحود، مما يحز في أنفسهم ويؤثر على الطابع القدسي للعلاقة الأسرية. وتكشف الوقائع الاجتماعية أن الأبناء الذين أغدق عليهم آباؤهم دون حساب، ووصلوا إلى أعلى المراتب العلمية والمهنية والاجتماعية كانوا الأكثر جحودا. واكتفوا في أحسن الحالات بتقديم النزر القليل لعائلاتهم كرد جميل لآبائهم.

يمارس الأبناء غير الأوفياء الجحود بكل بشاعة تجاه آبائهم إلى درجة إلقائهم في الشارع بلا مأوى ولا نفقة ولا معين. وهى أبشع جرائم الجحود التي تمارس في مختلف المجتمعات.

ويؤكد علماء النفس أن حب الآباء للأبناء أكثر بكثير، وهو يختلف كل الاختلاف عن حب الأبناء للآباء. ويشيرون إلى أن الآباء الذين أفنوا جهودهم في تربية أبنائهم هم الذين دائما ما يواجهون بالجحود، ويفسرون ذلك بأن من صفات الابن المدلل الأنانية والتسلط، وأن معاناته في الصغر تتحول إلى شقاء في الكبر.

وتقول زهرة بن أحمد، سبعينية، أم لثلاثة أولاد وبنت، تقيم بمفردها في منزلها بإحدى محافظات الجنوب التونسي، إنها كانت العائل الوحيد لأسرتها رغم وجود زوجها، وهي من اهتمت بأولادها حتى أنهوا تعليمهم الثانوي والجامعي، لكن أولادها بادروها بالجفاء مما اضطرها إلى الزواج ثانية حتى تضمن من يعيلها بعد أن تقدمت في السن، وأصبحت عاجزة عن العمل.

تربية الطفل على سلوك الأنانية والتملك تجعله لا يفكر بالآخرين عندما يصبح شخصا بالغا وهو ما يدفعه إلى الجحود

وتضيف أن أبناءها يتمتعون بمستوى تعليمي عال ومنهم من يدرس في الجامعة، لكنهم يبخلون عليها بالزيارات ولا يطمئنّون عليها إلا في المناسبات رغم سنها المتقدمة، كما أنهم لا يعيلونها

 ماديا، فهي تكتفي بالجراية الشهرية التي تركها لها زوجها الثاني بعد وفاته.

وتؤكد زهرة لـ”العرب” أنها تجد العطف والرعاية من أبناء شقيقتها ولا تجدهما لدى أبنائها الذين أفنت جهدها في تعليمهم، فهي اضطرت للعمل بمصنع لخياطة الأحذية حتى توفر لهم الرعاية المادية الكافية، ومع ذلك تنكروا لها ما إن وجدوا بديلا عن عونها وهي الرواتب التي توفرها لهم وظائفهم.

وتحدثت بن أحمد بحسرة وألم عن الأيام التي أفنتها في رعاية أبنائها وكيف لم تثمر إلا الجحود والنكران.

بدوره، أكد شاذلي الإبراهيمي، الذي تجاوز عتبة السبعين، أن أبناءه الذكور لم يكافئوه على ما بذله من جهد في تربيتهم، بل تنكروا له في أول امتحان وضعوا فيه.

وقال الإبراهيمي لـ”العرب”، إنه لم يدخر جهدا في تربيتهم وإنفاق المال عليهم، فهو قد مكنهم من منازل ليستقروا فيها بعد زواجهم، كما تنازل لابنه الأوسط عن دكانه الذي كان يعمل فيه وبقي دون مصدر رزق ولا جراية، ومع ذلك لم يقابلوه إلا بالمعاملة السيئة.

وأضاف أنه لم يكن يخيّل إليه أن مصيره سيكون الإهمال وقلة الرعاية من طرف أبنائه وزوجاتهم لما بذله من جهد لصالحهم. فهو لم يقصّر في تربيتهم ولم يكن قاسيا معهم أو متخاذلا، بل بالعكس، كان دائم العطاء وبسخاء أيضا.

وتحدث الإبراهيمي عن الأيام التي حلم فيها بأن أبناءه سيكبرون وسيكونون عونا له وسيساعدونه على العيش في أمان ودون مذلة، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، على حد تعبيره، فحتى إذا مرض يتجاهله أبناؤه ولا يقيمون لصحته وزنا، وفي معظم الأوقات يكتفون بشراء علبة دواء له دون استشارة الطبيب.

وينصح الإبراهيمي الآباء بأن لا يفعلوا مثله وأن لا يغدقوا على أولادهم حتى لا يصابوا بخيبة أمل بعد ذلك.

ويفسر علماء النفس سلوك النكران الذي يسلكه الأبناء في تعاملهم مع آبائهم بأن هناك خللا ما في شخصيتهم، أو أن التربية التي نشأوا عليها جعلتهم على هذه الشاكلة.

ويقول أحمد الأبيض المختص في علم النفس “إذا رأى الطفل أباه يتنكر لجده في تعامله معه، فهو سيسلك نفس السلوك مع أبيه”.

معاملة السيئة للآباء
المعاملة السيئة للآباء

ويضيف في تصريح لـ”العرب”، أن تربية الطفل على سلوك الأنانية والتملك تجعله لا يفكر بالآخرين عندما يصبح شخصا بالغا. كما أن ما يسمى القابلية للانحراف ولسوء المعاملة لكل من أحسن إليه تجعل الشخص لا يتعلم الاعتراف بالجميل للآخرين، وهو ما يجعله أيضا غير قادر على استيعاب أن هناك فاعلين آخرين وأنه ليس هو الفاعل الوحيد.

ويشير الأبيض إلى أن العيش في مجتمع استهلاكي وما يسميه بالحداثة السائلة التي تغيب فيها القيم، ينسي الشخص ما تعلمه من قيم وسط تسارع نسق الأحداث.

كما أن الإيغال في الفردانية يجعل الشخص يرى نفسه مركزا للعالم، ما يقوي عنده نزعة الأخذ، وهي النزعة المخالفة للذة العطاء وهي النزعة التي تجعل الفرد يشعر بالسعادة إذا كان سببا في شعور الآخرين بالسعادة.

ودعا علماء النفس إلى وجوب البحث في أصل هذه الرذيلة وسبب وجودها، مشيرين إلى أن التقاعس في زرع غريزة الوفاء من خلال التعليم والتثقيف والإعلام وتبغيض غريزة الجحود يفاقم انتشار ظاهرة عقوق الوالدين.

بدورهم، أكد علماء الاجتماع أن درجات العقوق تتفاوت لدى بعض الأبناء تجاه آبائهم، مشيرين إلى أن عددا منها لا يصدر فقط عمّن عانوا سوء التربية أو الحرمان المادي والعاطفي، بل عن أشخاص تربوا تربية حسنة وتوفرت لهم كافة شروط العيش المريح التي تصل أحيانا حد الدلال. ويرون أن أسلوب التربية الذي اتبع قد يكون سبباً أساسياً لما وصل إليه الابن من سلوك شاذ ومن عقوق.

ويقول علي أحمد، الدكتور المصري المختص في علم الاجتماع، إن الآباء يريدون دائماً أن يروا أبناءهم في مراتب متقدمة، ولكنهم قد يضلون السعي وقد يسيئون إلى الأبناء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

وأشار إلى أن المعاملة اللينة غير الحازمة والاستجابة إلى جميع مطالب الأبناء في طفولتهم دون تردد، وإحاطتهم باهتمام زائد قد تكون من أسباب العقوق.

وتابع “وهو ما يجعل الابن يشعر في بعض الأحيان أنّه يسيطر على والديه ويتحكم فيهما ويوجههما، ويجد هذا الابن أنّ عليه أن يأمر وعلى الوالدين السمع والطاعة، وأنّ عليه أن يطلب وعليهما الاستجابة”.

وأكد أحمد أنه في مثل هذه الأحوال تنقلب الأوضاع، ويثور الابن ثورة عنيفة إذا لم يستجب الوالدان لمطلبه مهماً كان هذا المطلب غير معقول وفوق طاقة الوالدين وإمكانياتهما.

وأشار إلى أن بعض الآباء يسلكون داخل الأسرة سلوكاً لا يجلب احترام الأبناء لهم، كما أن بعض الآباء يتساهلون في علاقتهم بالأبناء فيغفرون لهم كل أخطائهم وكل سوء سلوك يصدر من جانبهم ويكون موجهاً نحوهم دون أن يكلفوا أنفسهم عبء محاسبتهم وتوجيههم.

ويشير عيسى زنون، أستاذ الدراسات الإسلامية إلى مدى خطورة عقوق الوالدين، وكيف يجب على الأبناء الإحسان بالوالدين وقول المعروف لهما، ومن ذلك مساعدتهما في الدنيا بالنفقة والسمع والطاعة، وتنفيذ أوامرهما ومساعدتهما في قضاء حوائجهما، والإحسان إليهما بعد الممات بالعمل الصالح والصدقة الجارية.

21