أبناء بروميثيوس من صيادين شرسين إلى فنانين ومبتكرين

لقد ظهرت بوادر الفن في وقت مبكر مع بدايات الإنسان العاقل، الذي بدأ التفكير بشكل تجريدي، وبدأ التفكير في الزمن أبعد مما يراه ويعيشه، وساهمت الفنون في تغيير منظومات التواصل وفي تنمية القدرات العقلية وبالتالي ظهور مجتمعات مختلفة، انتقلت من الحركة الدائمة إلى الاستقرار، لكن هل يعقل أن كل ذلك التطور كان بمعزل عن اللغة؟
في كتابه “أبناء بروميثيوس – تاريخ البشرية قبل اختراع الكتابة” يأخذنا المؤرخ وعالم الآثار الألماني هيرمان بارتزينغر في رحلة مشوقة في خفايا تاريخ الإنسان، وتطوراته المتعاقبة، منذ تعلم المشي على قدمين، وصولا إلى بلوغه مرحلة الإنسان العاقل، واعتماده على الفن التشكيلي والطقوس، واستقراره في قرى وما يشبه المدن المبكرة، وتخليه تدريجيا عن الصيد، وتشكيله لثقافة مميزة، وهو ما تؤكده العديد من الحفريات والاكتشافات.
وقدم مشروع “كلمة” للترجمة في مركز أبوظبي للغة العربية، التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، ترجمة، نسخة عربية للكتاب، وقد نقله إلى اللغة العربية الدكتور إلياس حاجوج وراجع الترجمة مصطفى السليمان.
تطوّر الإنسان

مرجع مهم عن تاريخ البشرية
وفق بيان الناشر يُعدّ كتاب “أبناء بروميثيوس” مرجعا مهما لكل قارئ أو مهتم بتاريخ البشرية، لاسيما قبل اختراع الكتابة. وهو يعرض لبدايات نشأة الإنسان قبل نحو خمسة ملايين سنة وصولا إلى نشوء الحضارات واختراع الكتابة قبل بضعة آلاف من السنين. وذلك بأسلوب علمي ممتع ومشوّق مع العديد من الصور والخرائط التوضيحية.
ويتناول الكتاب المسار التطوّري الطويل الذي قطعه الإنسان في القارات كافة ابتداء من أوسترالوبيثيكوس، الذي ظهر لأول مرة في أفريقيا قبل نحو سبعة ملايين سنة، وصولا إلى الإنسان العاقل (Homo erectus) والحديث، الذي غزا أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وجزر المحيط الهادئ، وأخيرا الأميركيتين، حتى ظهور المجتمعات الزراعية المعقدة على ضفاف نهري دجلة والفرات وفي وادي النيل.
ويبيّن هيرمان بارتزينغر تكرارا مدى تأثير التغيّرات المناخية على أسلافنا ويبدي إعجابه بقدرتهم على التكيّف معها. فيبيّن كيف بدأ الإنسان الأول، مع أول فأس يدوية صنعها من الحجر، بصياغة تاريخه ودأب على التأثير في ظروفه البيئية والثقافية والاجتماعية مضفيا عليها طابعه الخاص بشكل متواصل.
ويؤكّد المؤلّف أن المحرّك الرئيس لتطوّر الإنسان الثقافي كان سعيه الدوؤب إلى تحسين ظروف عيشه في بيئة دائمة التغيّر والتبدّل.
ووفق تقديم الناشر يصحّ هذا على الإنسان المنتصب (Homo erectus)، الذي تحوّل من آكل جيف إلى صيّاد وحقّق الابتكار الثوري حقا، ألا وهو السيطرة على النار. وينطبق هذا من باب أولى على الإنسان العاقل (Homo sapiens)، الذي أنجز القفزة الثقافية نحو الصيد والجمع المتخصّصين وتفوّق على جميع أسلافه بروح الإبداع والبراعة.
الطريق إلى الذكاء
يناقش الكتاب بداية في هذا المسار طريقة تطور الدماغ البشري وتبعاته الثقافية، ويرى هيرمان بارتزينغر أنه “لم تستكمل بعد كتابة تاريخ نشأة الإنسان، ويطالعنا العلم المرة تلو الأخرى بمكتشفات جديدة تسمح بتتبع أدق المسارات المتعرجة لعائلة القردة العليا أو القردة الشبيهة بالإنسان، أو ما يسمى أسلاف الإنسان”.
وبدأ الكاتب من أهمية المشي المنتصب للإنسان والذي قاده إلى تطورات كثيرة لاحقة، معتبرا أنه “مع المشي المنتصب حظيت اليدان فجأة بأهمية جديدة كليا، وأخذت حساسيتهما تزداد باستمرار، وتحولت اليد القابضة إلى عضو للفهم”.
ويستشهد بارتزينغر بأهمية لغة الجسد عند الأطفال المكفوفين مثلا ليبين أهمية اللغة الجسدية، التي بدأ الإنسان معها في فهم العالم والإدراك وبالتالي تطوير قدراته الدماغية والفكرية.
يقول “تبين المشاهدات عند الأطفال المكفوفين ولاديا أن الكلام باليدين هو مكون مكمل للعملية اللغوية، وقد أمكن للغة المفاهيم أن تنشأ عن طريق تمايز الأصوات المرافقة للغة الجسد”.
جرت متغيرات كثيرة في التعايش في المجتمعات الريفية المبكرة وقد لعبت العبادة والطقوس دورا هاما في ذلك
ويظهر من خلال هذا الاستدلال أن الوصول إلى منظومة تواصل لغوية تقوم على الرموز كان بدايته الجسد والتطورات التي حصلت عليه، ومن هنا نفهم تأثير بيئة الإنسان وقدراته الجسدية ومحيطه على ابتكار اللغة.
ويتابع الكتاب كيف انتشر الإنسان العاقل في مناطق عديدة منها أوروبا مثلا، معتبرا أن هذا الإنسان الحديث ليس حديثا فقط من الناحية التشريحية بل هو حديث ثقافيا أيضا، ما يبرز الحدود الفاصلة بينه وبين أشكال الإنسان الأخرى السابقة، ولاسيما إنسان النياندرتال.
ويوضح أنه لا يمكننا الحديث عن حداثة ثقافية عموما إلا عندما يكون السلوك البشري شبيها بسلوكنا، وهو ما تبرزه الكثير من الحفريات والبحوث التي تؤكد أن الإنسان العاقل في العصر الحجري القديم إلى ابتداء من 40 ألف سنة مضت لم يعد يختلف في قدراته الثقافية عن الإنسان الحالي بشكل جوهري.
كما يلاحظ تطور قدرة الإنسان العاقل على التكيف مع الظروف، والانتقال الثوري إلى الزراعة والتدجين بدل الصيد، وانتشار عادات مثل المعالجة والخامات لصناعة الحبال والملابس والأغطية وصنع قاذف الرماح وغيره من بدايات الإنتاج الإنساني المنطلق من الذكاء.
ويسرد الكاتب إثر ذلك كيف أنشأ الإنسان الصور والرموز للتواصل وابتكاره للطقوس، في ما يسميه “فن العصر الجليدي”، والذي كانت الحيوانات وطرق صيدها وذبحها أهم عناصره، فيما غاب عنه الإنسان، إلى أن تحول تدريجيا إلى هذا الفن إلى تناول الإنسان من جوانب رمزية وصنعه الكثير من المنحوتات من عاج قرون الماموث، كان الإنسان موضوعها علاوة على الحيوانات.
ويقول “لا يعد فن العصر الجليدي الابتكار الوحيد للعصر الحجري القديم الأعلى، والذي يكشف على هذا النحو التاريخ الثقافي والفكري بشكل خاص، بيد أنه الابتكار الأشذ إثارة للإعجاب بلا شك” .
وصول الإنسان إلى منظومة تواصل لغوية تقوم على الرموز كان بدايته الجسد والتطورات التي حصلت عليه
فقد تم تصوير الحيوانات في وضعيات هادئة في الغالب، في اختلاف جوهري عن تصويرها مطاردة أثناء الصيد، ولم يتم تصويرها في حالات عدوانية كما كان معتادا، لكن الكاتب لا يخفي أن تفسير فنون هذا العصر يحمل بين طياته مغامرة غير ثابتة، إذ لا يمكن التكهن النهائي بمعاني الصور والرموز التي تركها الإنسان العاقل في تلك الحقبة.
لكن فنون تلك المرحلة تميزت بقدرة الإنسان على التجريد والتفكير في الماضي والمستقبل، ولا يكتفي في بحثه بأوروبا، بل يتناول التماثيل الصخرية في أفريقيا في العصر الحجري المتأخر. مؤكدا أن الفن كانت له كما له اليوم وظيفة اجتماعية بالغة الأهمية.
حقق الإنسان العاقل بالموسيقى والفن التشكيلي والاختراعات التقنية وتقنيات الصيد المتمايزة تنظيميا إمكانات حداثته البيولوجية التشريحية في حداثته الثقافية المعيشة، ولا يمكن تصور كل هذه التطورات دون تطورات لغوية مميزة، إذ لا يمكن أن يولد الإبداع البشري من دون لغة.
ويدرس بارتزينغر كيف انتقل الإنسان العاقل كليا من المعسكر إلى المدينة المبكرة في الشرق الأوسط، ويدرس ذلك من خلال الفن التشكيلي والحفريات الآثارية، ليبحث لاحقا في فصل بعنوان “الخطوات الأولى نحو الحياة الريفية في الهلال الخصيب”، الاتجاه الكلي نحو الزراعة والتخلي عن صدارة الصيد والتجمعات في معسكرات.
وظهرت متغيرات كثيرة في التعايش في المجتمعات الريفية المبكرة، وقد لعبت العبادة والطقوس دورا هاما في ذلك، إذ ساهمت في خلق نوع من التلاحم الاجتماعي.