"أبناء الرجال" في عالم عقرت فيه النساء

عن رواية فيليس دوروثي جيمس (1920-2014) التي صدرت عام 1993، أخرج المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون (صاحب هاري بوتر، سجين أزكبان، جاذبية الأرض، روما)، فيلم “أبناء الرجال” الذي يدور في المستقبل القريب، في عام 2027، ويتخيّل انتشار العقم بين نساء العالم، نتيجة العبث بكوكبنا الأرضي وما ينتج من تغيرات مناخية تنعكس سلبا على البشر.
تدور أحداث فيلم “أبناء الرجال” Children of Men للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون في بريطانيا، ضمن رؤية “ديستوبية”، أقرب إلى عالم جورج أورويل. لقد تحوّلت بريطانيا المعاصرة إلى ما يشبه ساحة حرب، وفاضت بطوفان من اللاجئين الذين هرعوا إليها من جميع أنحاء العالم يريدون الاحتماء في تلك الجزيرة الهادئة المنكفئة على نفسها.
لكنها لم تعد هادئة، فقد أصبحت ساحة للصراع المسلّح الشرس بين أطراف ثلاثة: جماعة يسارية متطرّفة تُريد تحطيم الدولة الشمولية بالوسائل الإرهابية وتنحاز للدفاع عن حقوق اللاجئين هي منظمة “سمك”، تقودها امرأة شديدة البأس هي “جوليان” (جوليان مور). وسلطة الدولة القمعية الفاشية متمثلة في الجيش الذي يطارد اللاجئين ويقتلهم أو يأسرهم ويضعهم في معسكرات اعتقال كبيرة داخل أقفاص. وجماعات الإرهاب الإسلامية التي كوّنت ميليشيا مسلحة تريد الاستيلاء على السلطة مستغلة الفوضى القائمة في البلاد.
خارج هذه الأطراف الثلاثة المتصارعة هناك جماعة “مشروع الإنسانية” التي يبحث علماؤها سبل استعادة خصوبة النساء مُجدّدا، وهي جماعة موجودة أساسا خارج البلاد ولها أذرع في الداخل، تريد توفير سبل النجاة لكل من يؤمنون بضرورة إعادة خلق العالم من جديد.
إننا أمام صورة شديدة القتامة لمستقبل أصبح فيه الإنسان يسير دون هدف واضح، لا يكاد يجد ما يأكله مع تضاؤل ضرورات الحياة، وتنامي الاشتباكات والدمار وانفجارات القنابل في قلب لندن، واشتعال الحرائق، مع شعور الجميع بالخوف والتوتّر والقلق. وأما السلطات، فبدلا من محاولة ضبط الأمور وجعلها تحت السيطرة، أصبحت تُطارد أفواج اللاجئين، وتمنح المواطنين عقاقير مجانية للانتحار.
صورة قاتمة
يبدأ الفيلم بإعلان خبر وفاة أصغر شخص في البلاد عن عمر 18 عاما. وهو خبر يُحدث صدمة كبرى لدى الجميع. أما مدخلنا إلى الفيلم فهو “ثيو” (يقوم بالدور كلايف أوين) الذي كان في الماضي ثوريا وكان يرتبط بعلاقة حب حميمية مع “جوليان”، وقد أنجب منها ولدا. لكنه توفي، بعد ذلك غير ثيو نهجه، وقبل منذ سنوات، العمل لحساب الحكومة في إحدى الوزارات.
والآن نراه ينجو بمعجزة من تفجير في قلب لندن، فيستقل قطارا مزدحما بالبشر من كافة الأجناس، ويتجه لزيارة صديقه القديم رسام الكاريكاتير “غاسبار” الذي يقوم بدوره في أداء مُمتع مايكل كين. وغاسبار يعيش في منزل ريفي وسط الغابات بالقرب من كانتربري، مع زوجته الصامتة.
ونحن لا نعرف هل كان صمتها اختيارا أم عجزا؟
في طريق العودة يتعرّض ثيو للاختطاف على أيدي مجموعة من منظمة “سمك” الفوضوية المُعادية للدولة التي تتزعّمها جوليان. لكن الجيش يطارد المختطفين، وتفقد جوليان حياتها خلال المطاردة، ويقتادون ثيو إلى مكان في الريف الإنجليزي حيث يكتشف هناك وجود فتاة سوداء حاملا اسمها “كي” يحتجزونها ويريدون من ثيو أن يستخدم نفوذه وعلاقاته بالسلطة لتهريبها خارج البلاد.
يقوم ثيو باصطحاب كي والفرار بها من الأسر من جماعة “سمك” التي يشكّ في أن لديها مآربها الخاصة وأنها ترغب في استخدام الفتاة لأغراض سياسية في سياق صراعها مع الدولة، بعد أن اتضح أنها المرأة الوحيدة على سطح الأرض التي بوركت بمعجزة الحمل منذ 18 عاما.. ربما من أحد رجال منظمة “سمك”.
ويخوض الاثنان مغامرة محفوفة بالكثير من المخاطر، يُطاردهما رجال المنظمة في مشاهد طويلة، نشهد خلالها صورة أبوكاليبسية مُرعبة.
وعلى الرغم من قتامة الموضوع والصور الكثيرة الكئيبة التي تتعاقب، إلاّ أن الفيلم ينتهي نهاية متفائلة وكأنه يجسد بصورة مباشرة فكرة وجود الضوء في نهاية النفق المُظلم، ويجعل من الفتاة السوداء كي رمزا لاستعادة جيل جديد من البشر من جنس مُختلف هو الذي سيجعل الحياة قابلة للاستمرار فوق كوكبنا الأرضي. وهي حرفيا تعبر مع ثيو نفقا مظلما غارق بمياه البحر لكي تصل إلى قارب النجاة الذي سينقلها إلى جماعة “مشروع الإنسانية”.
حس واقعي
ما يجعل هذا الفيلم أحد الأفلام التي تبقى في الذاكرة، نجاح مخرجه ألفونسو كوارون، في إدارة ممثليه وسط أعداد كبيرة من الممثلين الثانويين في مشاهد كبيرة مُصوّرة ببراعة وصدق وإقناع، على نحو لم يتحقّق سوى في أفلام قليلة بكل هذه القوّة والتأثير. وربما لا يوجد شبيه له في براعة تصميم المشاهد، واختيار مواقع التصوير، وإعادة تنسيق المناظر بحيث يجعلها تجسّد تلك الرؤية الديستوبية المرعبة، سوى فيلم ستانلي كوبريك الشهير “خزانة رصاص محشوة بالكامل” Full Metal Jacket.
استطاع كوارون، بحسّه الواقعي الصارم، أن يحصل على ما أراده من فريق الإنتاج، أي على مواقع غريبة تمنح الشعور بالاغتراب. لكنها أيضا قريبة منا، فهو مثلا لا يستخدم الألاعيب والابتكارات التكنولوجية التي توحي بالزمن المستقبلي الذي تدور فيه أحداث القصة (2027)، بل يقرّب عالم المستقبل من عالمنا عن قصد، لتحقيق تأثير مباشر على المتفرّج.
فصورة بريطانيا المُعاصرة في الريف والمدينة، تبدو واقعية ولكنها في الوقت نفسه، تعكس ما وقع من تدهور وانهيار بحيث أصبحت الساحات والشوارع والطرق الحقول، أقرب إلى أطلال مدن دارت فيها معارك عسكرية ضخمة.
تمكّن كوارون من تحريك المجاميع الكبيرة من الممثلين الثانويين، في مشاهد تتحرّك فيها الكاميرا حركات تتبّع طويلة تُتابع فيها الشخصيات من الخارج إلى الداخل، مع اهتزاز المنظور، بحيث تجعل المشاهدين يشعرون بالدوار.
ومن هذه اللقطات- المشاهد، التي تتصل فيها حركة الكاميرا، مشهد هروب ثيو من مختطفيه، ودخوله أحد المباني وجريه المتواصل في ممرّات متعرجة وسط صعوبة صعوده وهبوطه. وكذلك المشهد الذي يدور قرب النهاية عندما تقتحم قوة من الجيش أحد المباني التي يتحصّن داخلها أفراد من جماعة “سمك” الإرهابية، كما يهرب إليها ثيو وكي، وهو مشهد يتضمّن صعود سلالم ملتفة، والانتقال من طابق إلى آخر.
وكانت فكرة كوارون الذي عثر على مواقع التصوير المناسبة في شرق لندن، أن يجعل الصورة العامة لهذه المشاهد التي تصوّر الفقر والتدّني والدمار شبيهة بما يعرفه في بلده المكسيك.
ومن شاهدوا فيلم “روما” الذي أخرجه كوارون بعد ثلاثة عشر عاما من “أبناء الرجال”، يُمكنهم أن يدركوا أنه كان مع مدير تصويره الموهوب إيمانويل لوبيزكي، يتدربان على تلك المشاهد الملهمة الكبيرة في “روما” التي صبغاها بالطابع التسجيلي، وجعلاها تبدو كما لو كانت قد جرى تصويرها من دون توقّف. وهي “خدعة” أتقنها خبراء المؤثرات الخاصة الذين كان يتعيّن عليهم توصيل لقطات منفصلة معا بحيث يحافظون على الاستمرارية دون قطع.
ومن المشاهد الطويلة التفصيلية التي تبدو أيضا شديدة الإقناع والتي استخدمت فيها خدع المؤثرات الخاصة، مشهد ولادة كي لطفلتها، حيث يقوم ثيو نفسه بتوليدها، في لقطة تبدو متصلة وتبدو الولادة طبيعية تماما تحدث أمام الكاميرا في الزمن الطبيعي.
عن الأداء
من ناحية الأداء، يمكن القول إن جوليان مور لم تُختبر بشكل جدي بعد أن غادرت الفيلم مبكّرا، على العكس من مايكل كين الذي قدّم أداء ليس من الممكن نسيانه في دور غاسبار، بنظاراته الكبيرة وشعره الأشقر الذي ينسدل فوق كتفيه وأدائه الطفولي العابث المرح الذي يتّسق مع شخصيته كفوضوي متمرّد على الثقافة الرسمية. فقد بدا أقرب إلى “هيبي” قديم، يتعاطى الحشيش ويُشجّع الآخرين على تعاطيه، يستمع إلى الموسيقى التي تُذكّره بالماضي، ويطعم بيده زوجته الصماء. وكما عاش لاهيا عابثا يتمتّع بحكمة خاصة تمنحه الشجاعة، يلقى مصرعه على أيدي الجنود وهو يُعابثهم ويسخر منهم.
كلايف أوين في دور ثيو تماثل مع الشخصية إلى حد كبير وإن لم يرتفع في كل المشاهد إلى مستوى الموضوع نفسه الذي كان يقتضي تلوين الانفعالات. إن حيرته بين ماضيه وعلاقته السابقة بجوليان، وما أصبح عليه بعد أن التحق بخدمة الحكومة، ثم استعادته قيمه المثالية القديمة، لم تتّضح تماما وقد يكون رسم الشخصية في السيناريو هو المسؤول عن هذا. ونجحت كلير هوب أشيتي في تجسيد دور كي، بإقناع وثقة.
عن نهاية الفيلم يقول ألفونسو كوارون “لقد أردنا أن تُعطي النهاية بصيصا من الأمل لدى الجمهور لكي يضعوا فيها مشاعرهم الخاصة، فالشخص المتفائل بطبعه يمكنه أن يرى الكثير من الأمل هنا، أما من يميل للتشاؤم، فقد يراها نهاية عديمة الأمل”.