أحمد زويل.. رحيل عالم مصري غير وجه الكيمياء الحديثة

القاهرة - “الأوروبيون ليسوا أذكى منا لكنهم يقفون إلى جانب الفاشل ويدعمونه حتى ينجح، أما نحن فنحارب الناجح حتى يفشل”.. هكذا وصف العالم المصري أحمد زويل الذي رحل الثلاثاء الماضي مجتمع بلاده وسياساته الحاكمة على مر العصور.
وقال زويل قبل رحيله “وصيتي أن ينقل جثماني إلى مصر وأن يوارى الثرى في مصر”، وهي كلمات نقلها شريف فؤاد، المتحدث الإعلامي للعالم الراحل، على لسان زوجته السورية ديما زويل.
وفاز زويل بجائزة نوبل عام 1999 لأبحاثه الرائدة في علوم “الفيمتو” التي أتاحت مراقبة حركات الذرات أثناء التحولات الجزيئية في زمن الفيمتو ثانية وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية.
كان زويل يقول عن نفسه دائما “أنا إنسان صريح إلى أقصى درجة، ليس لي طموح سياسي، ما يعنيني بلادي، أخدمها وأدفن في ترابها”، هكذا حلم، وهكذا سيتحقق مراده.
لم يُعرف عن العالم الراحل أحمد زويل أنه كان ينشغل بشيء في حياته بقدر ما عاش للعلم باحثًا عن طموح لم يستطع أن يحققه في بلاده التي تركها وهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية، بعدما وجدها غارقة في معتركات سياسية وأزمات اقتصادية تبعث على اليأس والإحباط ولا تولي التعليم اهتماما، فشق طريقه بنفسه أملا في أن يعود إلى بلاده بحلم كبير يستطيع النهوض بها.
انحصرت خلافات زويل تقريبا مع كل أنظمة الحكم المصرية التي عاصرها، وهو في الولايات المتحدة، في أن الحكام لم يعملوا على تحقيق العدل الاجتماعي في التعليم، ولم يدركوا قيمة العلم في إنجاز نهضة حقيقية طالما حلم بها المصريون، ومن ثم اتهم نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك بإفشال المدارس وهدم التكنولوجيا، وقال إن نظام الرئيس الإخواني محمد مرسي يستغل التعليم لأجل البقاء في الحكم.
أراد زويل أن يثبت للجميع أن موازين القوة في العالم لا تنحصر في الأسلحة أو معدلات النمو الاقتصادي، بقدر ما تبدأ من التعلم العصري الذي ينشئ أجيالًا قادرة على أن تضع بلادها في مصاف الدول الأكثر تقدّما، وضمن البلدان ذات التأثير الواضح في موازين القوّة في العالم.
قامة علمية سامقة
ولد زويل في مدينة دمنهور المصرية عام 1946 وحصل على شهادته الجامعية في مصر، ثم حصل على شهادة الماجستير في العلوم بدرجة امتياز، قبل أن يعمل في شركة “شل” النفطية بالإسكندرية.
بعد ذلك سافر زويل إلى الولايات المتحدة وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1974 من جامعة بنسلفانيا، ثم التحق بفريق أبحاث في جامعة بيركلي في ولاية كاليفورنيا حتى عام 1976، وحاز منصب أستاذ مساعد في الفيزياء الكيميائية، قبل أن يلتحق بهيئة التدريس في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
وعام 2009 عينه الرئيس الأميركي باراك أوباما في المجلس الاستشاري الرئاسي في البيت الأبيض. وفي نوفمبر من العام نفسه عين أول مبعوث علمي للولايات المتحدة إلى دول الشرق الأوسط.
زويل: أنا إنسان صريح إلى أقصى درجة، ليس لي طموح سياسي، ما يعنيني بلادي، أخدمها وأدفن في ترابها
نال زويل عدة أوسمة وجوائز من دول كثيرة ونال 50 درجة فخرية في مجالات العلوم والفنون والفلسفة والقانون والطب والآداب الإنسانية.
ومنح أكثر من 100 جائزة عالمية من بينها جائزة ألبرت أينشتاين العالمية ووسام بنجامين فرانكلين وجائزة ليوناردو دافنشي وجائزة الملك فيصل وميدالية بريستلي.
ومنحته فرنسا وسام جوقة الشرف الوطني برتبة فارس. وأنشئت أيضا جوائز عالمية تحمل اسمه فضلا عن إنشاء مؤسسة تحمل اسمه وتعمل على دعم نشر المعرفة.
وكان زويل عضوا منتخبا في عدد من الجمعيات والأكاديميات العلمية ومن بينها جمعية الفلسفة الأميركية والأكاديمية الوطنية للعلوم والجمعية الملكية في لندن والأكاديمية الفرنسية والأكاديمية الروسية والأكاديمية الصينية والأكاديمية السويدية.
ورشح بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة زويل لعضوية المجلس الاستشاري العلمي للأمم المتحدة والذي يقدم المشورة في مجال العلم والتكنولوجيا والابتكار من أجل تحقيق التنمية المستدامة. وفي مصر حصل زويل على وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى وعلى قلادة النيل العظمى وهي أرفع وسام مصري.
ورغم ذلك لم يستطع زويل مواجهة الفكر السياسي المعادي لنظريته في مصر، سواء أكان ذلك إبان حكم مبارك أم في فترة من تعاقبوا على الحكم من بعده، ورغم سخطه لم يتبرأ من وطنه وظل مدينا له بالفضل.
التكريم الذي حظي به زويل من بلاده بعد وفاته مباشرة، قد يكون أكثر وقعا من التكريم الذي مني به وهو على قيد الحياة، فما بين نعي الساسة ورثاء المفكرين وعويل العامة، ظهر الاعتراف بمكانته التي لم تُستثمر وعلمه الذي أفاد الإنسانية، ولم تفسح له بلاده المجال ليفيدها أو تستفيد من خبراته كما يجب، باستثناء جامعة تحمل اسمه في مدينة السادس من أكتوبر (غرب القاهرة) أنشأها بعد مماطلات من الحكومة المصرية استمرت سنوات، ولم يحصل على تصريح رسمي بإنشائها إلا بعد الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013.
اعتاد العالم المصري الراحل أن يكون حكيما في عباراته، يصوبها إلى حيث يريد دون أن يدخل في صدام مع شخصيات أو جهات بعينها، من أجل أن يحقق مراده ويصل إلى أهدافه نحو تغيير جذري يرقى بالمجتمعات ويؤمن مستقبل أبنائها بعيدا عن استغلال حديثه لغايات سياسية، فتراه إذا أراد التغيير يلمّح ولا يصوّب، وإذا سعى نحو التجديد يشبّه ولا يتعمد التجريح.
|
وعُرف زويل بتوظيف سلاح التحفيز في أغلب أحاديثه بعيدا عن اللجوء إلى سياسة التقليل من شأن الآخرين، وكان دائما يستخدم الخيال ليعبر عما تحويه مكنونات نفسه من رغبة في تغيير البشرية ونقلها إلى مراحل التقدم والارتقاء.
وعلى عكس الكثيرين، كان يؤمن بأن الأحلام أكثر وسائل الوصول إلى قمة النجاح والازدهار، سواء أتعلق الأمر بالشعوب أم تعلق بحكامها.
وكان زويل قليل الحديث عن نفسه وعن مشواره العلمي، دائم الابتسامة التي تبعث على الأمل. ويقول الكثيرون ممن عاصروه إنه كان لا ينطق إلا بالحكمة، حتى لقّب بـ”حكيم العلماء” الذي ينظر إلى الحياة “بعين المدقق المحلل”، وأصبحت مأثوراته مصدر إلهام للكثيرين من أبناء الجيل الجديد الذين اعتبروه مثلا أعلى وأرادوا أن يعيشوا مثله في محراب العلم بعيدا عن صخب السياسة ودوامة اليأس والحروب الأهلية.
لم يتأثر زويل بالتقلبات الاجتماعية المثيرة التي تعرض لها في بداية نشأته، حيث عاش حياة متوسطة في منزل والده العامل في مرفق الصحة، وفي البداية لم تستقر أسرته في مكان واحد، حتى قررت الإقامة في مدينة دمنهور، حيث درس في مراحله الابتدائية والإعدادية والثانوية.
ولم يعثر زويل على محل إقامة في مدينة الإسكندرية (شمالا) حيث التحق بكلية العلوم، فاضطر إلى السفر يوميّا من منزل خاله – حيث يقيم – في دمنهور إلى الإسكندرية، ولقصر الوقت كان يستذكر دروسه في عربات القطار.
لم يكن حينها أحد يتصور أن الشاب الذي ينتمي إلى بيئة ريفية في دلتا النيل، سيغير مفهوم علم الكيمياء بعد ذلك بأقل من ثلاثين عاما. واستطاع زويل عبر اكتشاف “الفيمتو ثانية” لأول مرة تصوير عملية التفاعل الكيميائي التي لا تستغرق سوى لحظة من مليون مليار جزء من الثانية، فغير بذلك علم الكيمياء الحديثة.
قبل ذلك لم يكن العلماء يعرفون بالضبط ماذا يحدث أثناء تلك اللحظة، ولا الوقت الذي تستغرقه تفاعلاتها، فقد سلّم العلماء، طيلة السنوات الخمسين الماضية، بالصورة التقريبية التي وضعها ماكس بورن وروبرت أوبنهايم، بما يسمى “اللحظة الانتقالية التي تنفك خلالها الروابط الكيميائية للجزيئات وتقرن بجزيئات مادة أخرى، ويولد عنها جزيّئ جديد لمادة جديدة”.
محراب العلم ومعارك السياسة
لم تغب حياة الإحباطات ومثبطات النجاح التي يعيشها شباب الدول النامية عن بال زويل الذي هرب منها إلى عالم المعرفة والنابغين، إلى درجة أن سعادته بجائزة نوبل في العلوم الكيميائية وقت تسلمها لم تكن على قدر أمله في أن تكون جائزته بمثابة الملهم والمحفز للأجيال الشابة في الدول النامية، وتحديدا مصر، وأن تكون لهذه الأجيال عزيمة النضال والأخذ بأسباب العلم والاعتقاد للإسهام في دنيا العلوم والتكنولوجيا على المستوى العالمي.
صحيح أن تكريم الوطن لأي عالم تفوّق في مجاله، بمثابة نقطة تحول حقيقية في حياته العلمية، غير أن زويل لم يكن يبالي بكل ذلك سواء بمنحه “قلادة النيل” من حسني مبارك أو جائزة الدولة التقديرية من الرئيس المؤقت عدلي منصور، بقدر ما كان يعنيه دائما أن ينقل تجربته إلى أبناء وطنه.
كان زويل عملة نادرة لعالم هرب من الرجعية وحماة البيروقراطية وصناعة الجهل، أملا في أن يعود لينقذ الشباب من وضع هرب منه، ويكون مصباحا منيرا للباحثين عن التقدم وتحقيق أحلامهم، فهو القائل في مأثوراته “أريد أن أخدم بلدي وأموت عالمًا وأترك علماء من بعدي”.
|
ودفعته غيرته الشديدة على مستقبل مصر الى إقحام نفسه في معترك السياسة بالمطالب، بعيدًا عن نيل المناصب، فخلال المظاهرات التي خرجت صبيحة 25 يناير عام 2011، للمطالبة برحيل حسني مبارك، ومع تأزم الموقف السياسي، دخل على خط المطالبين برحيل نظام مبارك في الثاني من فبراير ووأد الفتنة في البلاد، ووقف نزيف الدم الذي سال في الشوارع والميادين جراء اعتداء قوات الأمن على المتظاهرين.
كان العالم الراحل مضطرًا باعتباره مواطنا يحمل الجنسية المصرية إلى جانب الأميركية، إلى تنحية منصبه العلمي جانبًا وارتداء ثوب الثائر لأجل إزاحة نظام طالما عادى رجال العلم والعلماء، وتسبب في تنامي الجهل والأمية في البلاد، حتى أصبح ضمن الرجال الذين نالوا ثقة الثوار والتفوا حوله وجعلوه في صدارة المشهد، وصار ضمن طليعة النخبة التي سوف ترسم مستقبل الوطن، فما كان منه إلا تلبية النداء حتى وإن دخل معترك السياسة التي ظل ينأى بنفسه بعيدًا عنها.
كانت لزويل تجربة مريرة مع حسني مبارك ونظامه، حيث عرض عليه مشروعه التعليمي والبحثي بإنشاء جامعة للعلوم والتكنولوجيا تختص بالعباقرة والباحثين، وبعد 15 عامًا من المقابلات والمراسلات لم يحرز أي نتيجة تذكر.
تكرر الموقف ذاته مع نظام الإخوان في عهد حكم محمد مرسي، قبل أن يجيز الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي إتمام المشروع وإنشاء الجامعة، بمساعدة القوات المسلحة التي قامت بتشييد الموقع بسرعة.
قرر زويل الدفاع عن نظام 30 يونيو في الصحافة الغربية، بينما كان الحكم في مصر يتعرض إلى حرب شرسة في الإعلام الأوروبي بعيد الإطاحة بالإخوان المسلمين.
وفي 3 نوفمبر 2014 كتب زويل مقالا في صحيفة لوس أنجلس تايمز، هاجم فيه أعضاء داخل الكونغرس الأميركي لمطالبتهم بوقف المساعدات العسكرية عن مصر، وقال “أعتقد أن قطع المساعدات الأجنبية لمصر في هذه اللحظة سيلحق الضرر بالعلاقات الأميركية المصرية، كما ستنجم عنه عواقب خطيرة على الشرق الأوسط، ينبغي على واشنطن إدراك أنها لم تعد المانح الأساسي للمساعدات الأجنبية لمصر، فحاليا تساهم دول الخليج بمقدار يتجاوز عشرة أضعاف المساعدات الأميركية”.
لم يسلم العالم المصري الراحل بعد ذلك من هجوم البعض من الساسة ومعارضي النظام من جماعات تيار الإسلام السياسي، ولامه البعض من أصدقائه قائلين إنه ما كان عليه أن يخرج من محراب العلم ليدخل معترك السياسة، حتى لو لم يكن باحثًا عن طموح سياسي، وأنه بات عليه التوقف عن الآراء السياسية، فرد عليهم بحكمة بليغة قال فيها “لا يمكن أن يبدع الخائفون، المرء دائما حيث يضع نفسه”.