استذكار إسماعيل فتاح الترك مصمم نصب الشهيد العراقي

تستذكر الحركة التشكيلية في العراق أحد أبرز أعلام النحت في العالم العربي.. بل والدولي، الفنان إسماعيل فتاح الترك، الذي رحل يوم 21/7/2004، مصمم نصب الشهيد في بغداد، الذي يعد من أهم وأبرز الأعمال الفنية التي نفذها الترك، حيث اتسم العمل بعبقرية معمارية وتصميم الفني رصين، وقد بني على شكل قبة عباسية مفتوحة بشكل يباعد بين نصفيها غير المتقابلين، والراية التي ترتفع بطول خمسة أقدام فوق الأرض وتغوص ثلاثة أمتار تحت الأرض حيث تشاهد على شكل ثريا، والينبوع الذي يتدفق ماؤه إلى داخل الأرض ليرمز إلى دم الشهيد.. ويرمز النصب الذي أقيم عام 1986 إلى تضحية الشهيد في سبيل وطنه ومبادئه.
وضمن إصدارات السلسلة الثقافية لدائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة، نقرأ، للناقد عادل كامل كتابا عن النحات الراحل إسماعيل فتاح الترك تحت عنوان “من ديموزي إلى عصر العولمة.. مشفرات الموت وأطياف الحرية”.
فقد رأى الناقد “إذا كان جواد سليم علامة للحقبة التي كادت تستكمل عصرها الريادي، قبل أن تؤثر موارد النفط على التنمية البشرية، بالإيجاب قليلاً، وبالسلب في أكثر الأحيان، فان إسماعيل فتاح، الذي كان أحد علامات جيل ما بعد 1958، أدرك بعمق –ورهافة- أن حرية الإبداع تتطلب عودة دائمة إلى مشروعات الإنسان إزاء الغياب”.
ويعرج الناقد إلى الدروس الأولى للترك “أستأثرت حياة وأفكار وتجارب إسماعيل فتاح الفنية بمشروعات جيل مازال يتلقى دروس الرواد في أكاديمية الفنون الجميلة، بتفكيك أسئلة بدت لنا أنها تنتمي إلى أزمنة خلت،… كان إسماعيل فتاح، هو الذي وجد فينا ما يشغله، الحرية إزاء الموت، والبصر إزاء العتمة، والتوقد إزاء الرداءة، فجرجرنا إليه،… إنما ثمة براءة مخبأة لم تدع إسماعيل فتاح إلا أن يصبح مستبداً في مواجهة هذه الإشكالية، طفولة لم تكتمل إلا لأنها لم تدمّر، ولم تصبح وثناً أو صنماً، فراح مع عدد من النحاتين والرسامين والمولعين بالتمرد يحث خطاه في حفريات أراها -بعد أكثر من أربعين سنة- تجدد ذات النزعة التي اكتشفناها في سومر، خروج ديموزي من الظلمات لتدشين ما هو في مواجهة تهديدات دائمة بالانجراف إلى المجهول”.
|
ويسلط الناقد عادل كامل، الضوء على الانشغالات الفلسفية للنحات الترك حيث أكد أنه “منذ وقت مبكر انشغل إسماعيل فتاح بمحركات الفن بصفتها غير مطلقة، لكن هذا لم يوقعه في وهم التعريف للأسلوب أو للهوية، فالمتحرك في رؤيته قاده للانتقال من المألوف أو التقليدي إلى نقيضه.
وفي الموت ونقيضه، يرى الناقد “فإسماعيل فتاح مكث يحدق في الأشكال التي حولتها سيول البراكين إلى فراغات وكأنها تذكره بما جرى لسومرقبل دمارها عندما دكتها حمم البراكين وعجلت بغيابها من التأريخ، لكن للموت، بحد ذاته، مشاهد حسية مباشرة تخاطب الرهافة، الموت قبل الأوان لأي سبب من الأسباب، وكأنه انفصل أو عزل عن جدلية الموت والولادة.
ويستشف الناقد في التأثيرات الأولية لتجربة الترك، خصوصاً في أعمال جياكوميتي وهنري مور “وإسماعيل فتاح لم يغفل تأثيراتهما عليه إلى جانب بيكاسو وآخرين، في دعائم الحداثة حتى منتصف القرن الماضي، ولكنه سيدرك أن المهمة الأولى، ولكل فنان، تحتم عليه أن لا يكون ظلاً، فالحرية سمحت له بإعادة قراءة الأزمنة، مثلما سمحت له أن لا يكون أسيرها”.
ويقارن الناقد تجربة الترك مع تجربة محمد غني “لم تكن الحرفة تعني، عند إسماعيل فتاح الإتقان، بمعنى المهارات الحرفية كما لدى محمد غني حكمت، بل كانت تتوخى التحرر بشكل أو بآخر، على أن هذا الاختلاف يذهب أبعد من السطح ومن المعالجات الشكلانية والتكنيكية نحو تيارات بنائية، وأخرى ترصد عمليات التحلل والانتهاك،… فإذا كان محمد غني حكمت قد مجّد الجسد كعلامة بلغت ذروتها بالصياغات الجمالية بدنيويتها، فإن إسماعيل فتاح كان يتمثل لغز الحياة كامتداد للموت تارة، وكبذرة عنيدة غير قابلة إلا أن نشاركها لغزها، برؤية لا يمكن عزلها عن محركاتها على صعيد المجتمعات، أو على صعيد نخبها المعرفية الفنية تارة أخرى.
ويعلل الناقد، تمرد جيل ستينات القرن العشرين في العراق “ليس لأنه جيل هبط من كوكب آخر، كي يستكمل زمن (الرواد)، بل لأنه أعاد قراءة موته، فهو خليط من التمرد والعواء والمغامرة والثورة والتحدي… ليحدد موقعه في العالم… كان إسماعيل فتاح، نموذجاً تجاوز حدود فعاليات الرسام والنحات والمعلم، ليسهم بحضوره في دفع الصخب والتمرد والتجديد نحو ذروته،… ولم يكن يحلم بأكثر من التقدم في مساحات الحلم لصياغة كائنات لديها ما يكفي من الإرادة في استثمار خزينها التأريخي… كان إسماعيل فتاح الشاب، قد تربّى وتعلم وعاش حياة تكونت من ريادات في الطب والقانون والاجتماع والآداب والفنون… فكانت سنوات دراسته تحرضه على اكتشاف مفاهيم تعددية الرؤى والمناهج والأساليب، وليس الانشغال بالتقنيات أو بالحرفة،… ففي مجسماته المجوفة، انشغال بالفراغ، فالكتلة تحاصر وتتحرر كأنها تحاكي تحولها إلى أثير”.
وينهي الناقد عادل كامل، بحثه الطويل في تجربة الفنان الراحل إسماعيل فتاح الترك في، اللاشخصي ـ الشخصي “فثمة اللافن، اللارواية، وموت المؤلف، والانحياز إلى اللاشخصي، واللاذاتي.. الخ، ظهر كتيارات مغايرة للتعبير وللرومانسية وللرهافات، ولكل ما يخص الانحياز إلى الأنا والانتقال كرد فعل مجاور لعصر الآلات وما بعدها… وإذا كان إسماعيل فتاح في سنوات دراسته أكثر ولعاً بالبحث عن التشذيب، كما في الموسيقى من غير أسماء،… فالرهافة ليست مطلقة وليس عامة، مع أنها ليست ذاتية أيضاً، فهي شبيهة بالحرية، ما إن لا تقيد، لا تغدو انعتاقاً، بل صفراً”.
كاتب من العراق