سعد الطائي يحاور الأمكنة والأزمنة العراقية ليصوغ وصايا الأمل

طوال عقود، أكد سعد الطائي اسمه كواحد من أهم الفنانين التشكيليين العراقيين، وها هو اليوم يستعرض ملامح تلك التجربة في معرض جديد يظهر مدى التزامه بمفردات الهوية العراقية ورموزها المتنوعة ومراحل نضج تجربته وأهم الأساليب التي اتبعها والمدارس التشكيلية التي تأثر بها واشتغل عليها.
بغداد - بحضور نخبة كبيرة من الفنانين والمثقفين والإعلاميين، احتفت قاعة إيوان في العاصمة العراقية بغداد، بالفنان التشكيلي العراقي الرائد سعد الطائي، من خلال معرضه الاستعادي، الذي يضم أكثر من سبعة وسبعين عملا متنوعا ما بين اللوحات الزيتية بأحجام مختلفة، والتخطيط بالحبر والفحم والألوان المائية و”الإسكيجات” الأولية لمشاريع فنية منفذة، فضلا عن الإصدارات التي صدرت عن تجاربه ومسيرته الفنية المتميزة، وأدواته الشخصية التي يرسم بها.
وسعد الطائي، فنان غزير الإنتاج والبحث المتواصل الذي دائما ما يحاول أن يخرج بثيمة موضوعية جديدة، ولكن ظل محافظا على أسلوبه الفني المتميز، بألوانه المتفردة، ومفرداته الأثيرة لديه التي يستلهمها من البيئة العراقية من بينها الإنسان، والأرض، والنخيل، والهضاب، والجبال، والأهوار، والصخور، وحتى الهواء، واقع نقله في لوحاته إلى بقاع العالم، أينما حل، كان هويته وأسلوبه وقضيته وموضوعه الراسخ في عقله وضميره.
يختزل الفنان العراقي بقلمه “رحلة عمره” هذه مع الفن، قائلا: “لحقب زمنية مختلفة أنتجت العديد من اللوحات الفنية بأفكار متنوعة، لم تكن ثابتة بل متحولة بمتغيرات مستمرة لم تبتعد عن تطور ومتغيرات الفنون المعاصرة، بأسلوب متميز واضح للمشاهد، وكان تأثير البيئة العراقية أثر كبير في معالمها، ولم تكن مطابقة لهذا الواقع. جعلت الاختزال والتبسيط والإضافة سبيلا للأهداف التي رسمتها في مخيلتي، رسمت الحياة في الريف والصيادين في الأهوار، ودرست وتمعنت في أشكال العمارة الإسلامية، من قباب وأروقة وأشكال متداخلة لا حدود لها.”
ويوضح “رسمت الصخور التي تنطق بصمتها، والجبال والوديان بما تمتلكه ذاكرتي من أشكالها وألوانها، مجاورا لها لا ناقلاً لواقعها. رسمت الصحراء والفرسان والطيور التي لا تتعرف على جنسها. طيور تحوم في الفضاء الواسع أو حول أناس مهاجرين أو مهجرين لا يعرفون أين المستقر. رسمت الناس المؤطرين بحصار مفروض عليهم، والعديد من الأفكار أُوجزها بقولي: ليس هما أن أرى ما قد يُرى إن همي أن أُرى ماذا أرى.”
وتحت عنوان “محمولات الرسم.. شفاعات الوجد”، كتب الناقد جواد الزيدي مقدمة دليل معرض الطائي، ما يدل على انحيازه التام لواقع الطائي، قائلا: “لعل أزمنة ممتدة وعقود طويلة من تراكمات الخبرة الحياتية ومعرفة أنساقها الصاعدة وإمكانية محاكاة العالم الموضوعي مقرونا بتراكمات اشتغالات النوع الفني ألقت بظلالها على تجربة الفنان سعد الطائي الرسومية، بما يعزز زوايا النظر للوقائع الماضية التي تفترق باختلاف الحدث وتتسع حتما. بيد أن الإنسان محوره الأساس والثيمة المركزية يظل علامة مهيمنة في لوحته المرسومة أو في مجمل خطابه البصري. فمن نساء الملح والصيادين إلى فكرة الهجرة والاغتراب وقسوة الأمكنة الجديدة وغيرها مما أحاط بالذات الإنسانية التي شاهدها وراقب ارتكاساتها، بوصفها عنواناً لهموم الإنسان المعاصر.”
ويرى الناقد الفني أن لوحات الطائي “حملت هذه المرة أيقونات إنسانية بمختلف المستويات العمرية يحدوها الأمل بالعودة إلى الموطن الأصلي، أو فرسان مهاجرون عبر تضاريس البيئة القاسية قمم جبال ووديان موغلة في العمق تقابلها وحشة روح تفتقد كل شيء في تلك الهجرة، فرسان يمتطون خيولهم التي لا تتماثل مع الواقع، لأنها خيول ‘الطائي’ بامتياز، ناتجة عن سلطة التخيل وهي تحمل وصايا الأمل وعطر الأمكنة.”
ويبدو أن غربة الإنسان الفعلية واغتراب الروح تمثلت في لوحة مرسومة استطاع الطائي من خلالها أن يحيل كل موجود وشيء إلى رموز في حوارية مع المرجع البيئي من جذوع نخيل وسعفات مقطوعة، وخيول تأتي من عمق الذاكرة البعيدة، ونساء مهاجرات عبر الطرق النيسمية، ومنعرجات المرتفعات الجبلية والطفولة المنهكة التي تلتحف عباءات الأمهات.
كل هذه المفردات صارت خطابا بصريا يلملم أطراف الشتات، وصولا إلى وحدة موضوعية التناول تظهر عبر منظومة اللون الأزرق والأحمر وما يجاورهما، بدلالتها المتحركة التي طورها لتتحوّل إلى ما يماثل عاصفة الهواء المتكور التي تخترق الفضاءات وتحدّد مسارات الحركة وصولاً إلى فضاء تعبيري يكتمل بالوجود الشيئي أحس بها واستشعرها أثناء اغترابه الفعلي المؤقت، ومحايثة واقعية الحدث عن طريق المعايشة اليومية والمشاهدات ومدونات سجلاته المرئية التي تحيل إلى ذلك كله، حتى أعاد صلاته بفضائه المكاني الواقعي وخلق واقعا ممكنَ التصيّر عبر مرشحات اللاوعي التي تجلّت في العودة إلى بيئة محدّدة هي بيئة الأهوار، من خلال صورة العائلة وهي تبحر بزورق يخترق صمت المستنقعات المائية، بوصفها بديلا عن الأمكنة المفقودة التي غادرها الفنان نفسه.
هذه الصحبة تعكس علاقة الطائي الروحية مع المناخات التي يصطحبها في اغترابه من أجل إعادة إنتاج الواقع المفقود عبر الأشياء والموجودات المحببة له.
والفنان سعد الطائي ولد في العام 1935 في محلة الوردية في مدينة الحلة في العراق.
في العام 1941، وهو بعمر الستة أعوام بدأ يرسم ما كان يراه في رحلاته مع والده إلى الريف والحقول الزراعية وكان معلمه في الصف الأول الابتدائي يعطيه ألوانا ملونة ليرسم ويلون بها.
أواخر عام 1952، وبعمر السابعة عشر، سافر إلى بيروت متجها إلى إيطاليا ليبدأ دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في روما وكل من خالد الرحال وفرج عبو وبعدها محمد غني حكمت مبتعثين من قبل الحكومة لدراسة الفن في الأكاديمية نفسها.
في العام 1955 حاز على جائزة “المنظر الإيطالي” كما يراه الفنانون الأجانب في إيطاليا.
في العام 1957 تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما وحاز على شهادة الماجستير منها. ثم عاد في العام ذاته إلى بغداد. وما بين العامين 1957 و1968 عضوا في جماعة الانطباعيين. وفي العام 1959 حاز على جائزة إيطاليا للفنون.
ومنذ العام 1976 وهو يعمل أستاذا لفن الرسم في كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد وأصبح بعدها رئيس قسم التربية الفنية وقسم الفنون التشكيلية في الكلية نفسها ورئيس اللجنة الوطنية للفنون التشكيلية التابعة للرابطة الدولية للفنون التشكيلية وألف كتبا ومناهج عديدة لتدريس الفنون التشكيلية.
وفي العام 1990 حاز على جائزة المصمم المميز عن مسرحية «أوديب ملكا» من المركز العراقي للمسرح.
وأسس في العام 2002 قسم اللغة الإيطالية وترأسه في كلية اللغات في جامعة بغداد. وبعد ذلك بثلاث سنوات، أي في العام 2005، حاز على وسام الفارس من الجمهورية الإيطالية. وفي العام 2009 أصبح أستاذا متمرسا متقاعدا في كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد.
هو عضو في جمعية الفنانين العراقيين وجمعية الصداقة العراقية-الإيطالية.
أقام طوال مسيرة امتدت على عقود العديد من المعارض الفنية وشارك في عدة معارض ومهرجانات فنية داخل العراق وخارجه.