يحيى الفخراني صوفي الدراما المصرية في عباءة الدكتور فاوست

بروكسل - الكتابة عن الفن الذي يقدمه يحيى الفخراني مُربكة البدايات، لما يحمله الرجل من تاريخ طويل بين المسرح والسينما والدراما، بأدوارٍ لم يكرر الفخراني فيها نفسه مطلقاً، كان في كل لوحة يضمن ظهوراً خاصاً لا يُشبِه سابقه أبداً.
من البدايات الأولى في مطلع سبعينات القرن الماضي برزَ نجم طالب الطب الذي ولد في السابع من أبريل للعام 1945. تنوُّع أحياء القاهرة التي عاش فيها، جعل الفخراني يكبر في طفولة امتلك فيها الثراء المعرفي ما دفعه بشغف نحو التميز في التحصيل العلمي ليكون طالباً في كلية الطب البشري بجامعة عين شمس، مُنهياً دراسته الأكاديمية في العام 1971. ليدخل بعدها مباشرة ميدان العمل الطبي كموظف في صندوق الخدمات الطبية في مقر التلفزيون المصري ذلك الوقت، تلك الجغرافيا التي تواجد فيها بحكم القدر، كانت مناخاً إيجابياً للطبيب الشاب كي يعود إلى ملفّاته الأولى حيث برع في أداء الأدوار المسرحية خلال انضمامه إلى فرقة المسرح الجامعي، تاركاً ميدان العلوم الطبية متخذاً من الفن مهنة ورسالة.
ابن الأرندلي
اليوم حين نتحدث عن يحيى الفخراني لا نحتاج إلى الكثير من البحث أو المراجعة، فهو واحدٌ من الذين صنعوا تاريخ الدراما العربية بأدوار ستبقى ما بقيت الشاشة الفضية في بيوتنا، فالدكتور الفخراني بما امتلكَهُ من حضور وكاريزما شخصية مكنته من الولوج إلى قلوب متابعيه، تحوَّل من النجم الفني إلى حالة تسترعي الدراسة والبحث، هذا ثابت من خلال نجوميَّتِه التي لم تنطفئ حتى اليوم وقدرته على مواكبة تطورات علم التمثيل وإصراره على تقديم ما هو قادر على إبهار المشاهدين والنقاد على حدٍّ سواء.
ليالي الحلمية، زيزينيا، أوبرا عايدة، سكة الهلالي، ابن الأرندلي، شيخ العرب همّام، دهشة، الخواجة عبدالقادر، ونّوس، هذه لم تكن عناوين عابرة، إنها انعطافات حقيقية في تاريخ الفن العربي الدرامي، استطاع الفخراني بما امتلك من أدوات أن يحوِّلها إلى أيقونات منتشرة مختلفة عن بعضها في الصناعة والمُنتَج.
سر الخلطة العجيبة التي يقدِّمها معشوق الدراما كما يُسمّيه محبوه تكمن في عشقه للكاميرا، وسعيه الدائم إلى تطوير أدواته التمثيلية، ويقينه بالقدرة على التميز من خلال تقديم غير المألوف والمُنتَظَر.
في السباق الرمضاني يسعى الفخراني دوماً منذ ما يقارب الأربعة عقود إلى تقديم ما هو صادم، بممازجة فريدة بين الواقع والخيال في فانتازيا درامية لا تملك كمشاهد إلا أن تكون واحداً من متابعيها، تشاركُ الأبطال حيرتهم وتنتظرُ مثل الآخرين ما يحدث بكل الشغف الذي يتركه الطبيب النجم، وسأكتفي هنا بتناول ثلاث تجارب من مشوار يحيى الفخراني الفني لتسليط الضوء على هذه الحالة الفنية الفريدة.
الخواجة عبدالقادر
في العام 2012 أطلَّ يحيى الفخراني على جمهوره من خلال نصٍ مدهش للكاتب عبدالرحيم كمال الذي امتزجت مشاهده بموسيقى الفنان عمر خيرت. لتكون اللوحة الأخيرة للخواجة عبدالقادر القادم إلى بلاد وادي النيل طالباً لموتٍ لم ينلهُ في جولات الحرب العالمية الثانية.
|
هو هربرت البريطاني الذي فقد أخاه في أتون المعارك فزهد في الحياة و أخذ يهجم على الموت الذي كان يبتعد عنه كلما اقترب في القارة العجوز، حينها حزم الفخراني حقيبته الوحيدة واتجه إلى السودان، فلسفة الابتعاد هنا كانت للاقتراب أكثر من النهاية التي تخيّلها هربرت في البلاد الحارة التي أعطته بدورها البعد الثالث للروح.
في العالم الماورائي تلاقت الأرواح بين الخواجة عبدالقادر وزينب الشابة، فنَمَت قصة حب عظيمة لم يجد عبدالرحيم كمال أصدق من كلمات الحلّاج التي أعادت للذهنية العربية الشعرية أعذب المقطوعات الصوفية للتعبير عن حالة الوجد في لحظاتها المفصلية.
تخطّى الخواجة عبدالقادر مراحل الحب التي قرأنا عنها في “طوق الحمامة في الألفة و الأُلّاف” لابن حزم الأندلسي، فابتدع درجة جديدة تقترب من التوحد والحلول في ذات المعشوق بمقاربة صوفية مذهلة بين الحب بمعناه الصوفي ومعانيه البشرية، هكذا أراد يحيى الفخراني أن يقدِّم الصورة الحقيقية للإسلام الذي نشأ على رسالته في مجتمع محافظ كمجتمع منطقة “مِيت غَمر” التي نشأ بها. مستخدماً لغة بيضاء يتحدثّها الأجانب بلكنة عربية مُذهلة، وبهذا وصل الفخراني إلى لحظة حياة الحالة للشخصية التي يجسدها في مشاهد عديدة ربما كان آخرها ما أُسدِلَ عليه ستار دراما “الخواجة عبدالقادر” بلحظة حرق البيت الذي احتوى قصة الحب العنيفة.
التزام الفخراني الرمضاني بالسباق الدرامي دفعه نحو منطقة جديدة لم تطأها قدماه من قبل، الولوج في عوالم النفس البشرية، ففي هذا العمل استخدم الفخراني مخزونه المعرفي المتراكم في سنوات شبابه، حيث كانت الأقدار تدفع به نحو التخصص بالطب النفسي عقب إنهائه دراسة الطب البشري، “ونوس” الذي حمل كعمل درامي أسماء عديدة بين “فتنة”، و“في بيتنا ونوس”، وصولاً إلى اعتماد الاسم الحالي الذي يظهر به على قنوات العرض الفضائية.
في بيتنا ونوس
القصة تبدأ بظهور مفاجئ لشخصية غير نمطية، تتقاطع مع البشر ببعض الخصائص كالمظهر والسلوك وتقترب من الشيطان كما صوَّرَته الآداب العالمية بأفعال عديدة، وهذا ما يضع العمل في دائرة التركيز الكلي لمتابعيه الذين عاشوا حلقاته الأولى في محاولة لاكتشاف شخصية ونوس، الذي يمثل الجانب المظلم في النفس البشرية، ذلك الجانب الطامح إلى استخدام كل شيء في سبيل الوصول إلى الغايات المتعددة.
|
القدرة الفعلية التي رافقت ظهور الفخراني أو ونوس كانت بموازاة قدرات تعبيرية متعددة، استطاع من خلالها التنقُّل بحيوية مذهلة بين الوجوه المتعددة بدءاً بلحظة ظهوره في العائلة الفقيرة وانتهاء بقدراته على حلّ الأزمات المتتابعة التي تعصف بها، وهنا لا بد من الإشارة إلى اعتماد الفخراني على الأداء المسرحي في لقطات كثيرة عكستها الكاميرا بصورة تعبيرات جسدية أو ذهنية واضحة المعالم في المشهد التمثيلي غير المحدود بين النقائض التي تتضمن ثنائيات متعددة كالخير والشر، الصحة والجنون، القوة والضعف، الفقر والغنى، الحب والكره.
لذلك لا يمكن رؤية الفخراني في ونوس إلا عبر مستويين، الأول أفقي تمتد فيه الشخصية بارتكازاتها الدرامية والمسرحية اعتماداً على وجود القطب الثاني في العمل الذي تمثّل في الفنان نبيل الحلفاوي. والثاني هو مستوى عمودي عكَسَ على القراءة البيانية لشخصيات العمل قدرة ونوس على التلاعب بالمصائر رغم الأحداث المُلتَزِمة بالمكان و الزمان الطبيعي المعروف.
ربما يحضر هنا “فاوست الألماني” بالصورة التي قدّمها الفيلسوف غوته من خلال مسرحيته الشهيرة حيث يظهر فاوست بصورة من باع نفسه للشيطان واشترى ملذات الحياة.، لهذا كان ونوس هو الفتنة الغائبة الموجودة في كل بيت بانتظار ظروف موضوعية تضمن ظهورها الطبيعي لتلعب دورها المتكامل مع أحداث تطحنُ بها الحياةُ أبطالَها.
منذ العام 2011 بدأ يحيى الفخراني بالظهور بصورة كرتونية جديدة، مزج فيها بين الأداء التمثيلي عبر طبقات الصوت المختلفة التي تميّز بها، فالفخراني يملك عدة طبقات تجعل من صوته علامة فارقة مسجّلةً له حتى لو من وراء حجاب.
|
الفخراني بصورة كرتونية
بهذه الميزة الفطرية لم يتجه الفخراني نحو الأعمال الدرامية المدبلجة عن التركية أو المكسيكية أو غيرها التي باتت تغزو ثقافتنا العربية، بل اشتغل على مسار آخر تمثّل في إعادة قراءة التاريخ للناشئين والأطفال عبر الرجوع إلى القصص الموجودة في القرآن الكريم أو في الأثر والتاريخ الإسلامي والعربي فأعاد إحياءها من خلال أفلام كرتونية حاكَت القدرة البصرية والعقلية للأطفال في سرد أخّاذ، إبداعي فريد، فرأينا “قصص الحيوان في القرآن الكريم” عام 2011، “قصص الإنسان في القرآن” عام 2012، “قصص النساء في القرآن” عام 2013، “عجائب القصص في القرآن” عام 2014، “قصص الآيات في القرآن” عام 2015.
في هذه السلسلة الكرتونية استطاع الفخراني أن يؤسس لعالم من ” الأنيميشن” العربي بصورة تشبهنا وتشبه الثقافة التي نرتكز عليها في وجودنا الإنساني، إنها مهمة شاقة سلاحهُ فيها الصوت وطبقاته وقدرته الفريدة على الولوج إلى أكثر الأماكن صفاء في النفس البشرية حتى لو لم يظهر بصورته الشخصية التي نعرفه عليها.
وكما افتتحنا، فإن الكتابة عن يحيى الفخراني مربكة البدايات و النهايات معاً، فالطبيب ذو التاريخ الفني الذي قارب مشواره نصف قرن، يستطيع اليوم التعامل مع أكثر الأدوار دقة واشكالية ليقدمها بقالب قريب من المشاهد مهما كانت تعقيداتها، كوميدياً وإنسانياً ومأساوياً، فرحاً وحزناً، قوة وانكساراً، شفافية ودهاء، هذه التناقضات الموجودة في تفاصيل الحياة تمكّن الفخراني من إعادة صياغتها بقوالب فنية مُدهشة من خلال سلسلة طويلة من الأعمال التي ما تزال محفورة في وجدان المشاهد العربي القادر على تمييز حضور الفخراني عن غيره.