شتاء حار جاف
عزا متخصصون انتشار ظاهرة الانتحار في الآونة الأخيرة، إلى مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. هذه الصيغة المتعارف عليها من”الكليشيهات” الأكاديمية التي فقدت مذاقها وجدواها، قد تكون “ورقة” مناسبة في محاضرة يضطر إلى إلقائها أستاذ جامعي على أسماع طلبة علم النفس أو الاجتماع باعتبارها جزءاً من منهج دراسي أكل عليه الدهر وشرب، وربما تكون تبريراً يصدر سهواً عن متحدث باسم منظمة “إنسانية”، للتخلص من أسئلة صحافي مزعج مازال مصراً على مصارعة الأمواج في بحار البحث عن “الحقيقة”، وهو لا يمتلك سترة نجاة مناسبة.
بل إن بعض الدوريات المتخصصة مازالت مصرّة على تعريف الانتحار بتعبيرات ساذجة مثل “الانتحار هو التصرف المتعمد من قبل شخص ما لإنهاء حياته!” أو أنه “ضعف في الضمير وعدم القدرة على التكيف مع المجتمع”!!
على مستوى العالم، تشير الإحصاءات إلى أن أعلى معدلات الانتحار سجلت في دول البلطيق، وخاصة في صفوف الشباب بسبب الاضطرابات النفسية والأمراض العقلية، وتعاطي المخدرات وربما الفقر، وهم أكثر من ضحايا الحوادث المرورية مثلاً، في حين مازالت حالات الانتحار في الدنمارك والسويد تحقق معدلات مرتفعة أيضاً، حيث سجلت إحصاءات العام 2011 وحدها 1380 حالة انتحار، وهي نسبة كبيرة قياساً إلى عدد السكان، على الرغم من أن هذين البلدين يتسابقان في توفير مستوى رفيع من العيش الكريم لشعبيهما.
هذا الأمر حيّر متخصصين في الشؤون النفسية وجعلهم يرجعون المسببات إلى سوء الأحوال الجوية وتسيّد موسم الشتاء على بقية فصول السنة وما قد يوفره من أجواء مناسبة للاكتئاب النفسي. فالاكتئاب، في المحصلة، هو أهم أسباب الانتحار، وهو مصدر الإحباط وفقدان الرغبة في الحياة والأمل في المستقبل.
مع ذلك، ووسط فوضى أخبار الموت والقتل والتفجيرات في العراق، تتسلل بعض قصص الانتحار الصغيرة بخجل إلى وسائل الإعلام باعتبارها حالات فردية لا تستحق عناء الاهتمام بها حيث يبدو انشغال الناس بالأمر منصباً على الأرقام التي تتجاوز المئة على مقياس الموت المجاني، في البلد الذي ينام على خوف ويصحو على فجيعة.
أخبار تنفي وأخرى تؤكد حوادث الانتحار وإحصاءات شبه معدومة لأسباب اجتماعية وسياسية أيضاً، فالمجتمع مازال يرفض فكرة قتل النفس باعتبارها خرقاً للقوانين العرفية والسماوية، وأهل السياسة يرفضون موت المواطن بإرادته مع ما يوفرونه من طرق لا إرادية عديدة للموت المبتكر والمجاني.
تلميذة ثانوية تقرر إنهاء حياتها بسبب فشلها في الامتحان وضياع أحلامها بمستقبل علمي زاهر، ومحاولات انتحار لعدد لا بأس به من السيدات في مدن الجنوب والأسباب أيضاً مجهولة لمن يبادر بأن يدس أنفه في ما لا يعنيه.
صحافي يرمي بنفسه من فوق جسر في بغداد لأسباب مجهولة في حين ترفض الجهات المعنية الكشف عنها، حتى تنجح فرق الإنقاذ في العثور على الجثة التي ابتلعتها المياه، إضافة إلى أن شبهة الانتحار غير مؤكدة لأن الفقيد كان يتمتع بظروف معيشية طبيعية ولا يعاني من مشاكل نفسية، ولم يصرّح المتحدث غير الرسمي باسم الموت ماذا كان يعني بـ”ظروف طبيعية”.
يبدو الأمر مجرد توارد خواطر ومشاركة وجدانية مع علماء نفس السويد الذين تحدثوا مطولاً عن الشتاء الداكن الممل، مع أن الفرق يبدو بسيطاً للغاية؛ فشتاء السويد غائم ويدعو إلى الاكتئاب أما شتاء العراق فهو حار، جاف وناسف مع فرصة لتساقط بعض الأشلاء البشرية في الشوارع والأسواق.
الحياة مريعة والانتحار مسألة محيرة فعلاً، أو كما يقول ألبير كامو “الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة”.
كاتبة عراقية مقيمة في لندن