ألكسندر فان دير بيلين أستاذ جامعي ينتصر على اليمين المتطرف في النمسا

الأحد 2016/06/05
سليل عائلة من اللاجئين الأجانب يتربع على كرسي الرئاسة

بروكسل - حبَسَ كثير من المتابعين أنفاسهم خلال فرز الأصوات النهائية التي وصلت عبر البريد الإلكتروني لحسم الصراع الانتخابي بين اليسار واليمين المتطرف في العاصمة النمساوية فيينا، عقِب جولة وَصفها كثير من الساسة الأوروبيين بأنها مُقلقة، بعدما أظهرت اقتراب اليمين المتطرف بزعامة نوربرت هوفر من إنهاء السباق الرئاسي.

إلا أنَّ الرياح التي واتت سفن ربان اليمين هوفر في الرابع والعشرين من أبريل الماضي، حسمت أمرها في الثالث والعشرين من شهر مايو الماضي واتجهت نحو شواطئ السبعيني ألكسندر فان دير بيلين، حاملةً إيّاهُ ومناصريه من حزب الخضر نحو كرسي الرئاسة في البلاد التي تتكون من تسعة ولايات اتحادية إضافة إلى إقليم العاصمة فيينا.

القصة بدأت مع استحواذ اليمين على تصويت الجمهور النمساوي في جولات عديدة سبقت الانتخابات الرئاسية التي أظهرت في جولاتها الأخيرة تقدَّم زعيم اليمين المتطرف على ألكسندر فان دير بيلين زعيم حزب الخضر السابق والمرشح المستقل المدعوم من أحزاب يسارية نمساوية.

لكن هذه الآمال المتطرفة تبددت مع بدء عملية فرز 700 ألف صوت بما يعرف بـ”التصويت عبر البريد”، حيث تقدم بيلين ليكون الفائز في الانتخابات التي انشغل بها الرأي العام الأوروبي، وهذا ما عكَس حقيقة صورة الصراع في جوهر النظرة نحو الملفات الداخلية والخارجية بين اليمين واليسار، وبصورة أدق هو صراعٌ بين الصورة الفاشية لأوروبا وبين الصورة الأوروبية الحديثة القائمة على قيم التعدد.

ألكسندر فان دير بيلين، الرئيس النمساوي الجديد الذي سيبدأ مهامه الدستورية في الثامن من يوليو القادم، ولد في فيينا في الثامن عشر من يناير لعام 1944، لعائلة وصلت إلى البلاد هرباً من الحكم الستاليني بعد اجتياحه إستونيا، فالفتى ذو الأصل الروسي وُلد لأب انتمى إلى عائلة أرستقراطية من نبلاء هولندا. عائلته وصلت إلى روسيا تقريباً في منتصف القرن الثامن عشر، حيث بعد ذلك بعقود وتحديداً في عام 1934 تزوَّج والده من والدة بيلين الإستونية “ألْمَا”، ذلك الزواج ما لبث أن سلَك طريق الآلام بعد الاجتياح الروسي لإستونيا، حيث هربت العائلة مروراً بدول عديدة حتى حط بهم الحال في النمسا ليولد ألكسندر فان دير بيلين طفلاً لعائلة لاجئة.

فيينا والخطوات الصعبة

في بيئة الفقر والحاجة والظروف الصعبة بدأ بيلين أولى خطواته نحو الحياة حيث قضى طفولته الأولى في فيينا واصفاً نفسه فيما بعد مرّات عديدة، أنه طفل من اللاجئين، قضى مراحله التعليمية في ضواحي العاصمة قبل أن ينتقل إلى أنسبروك منهياً دراسته الثانوية وحائزاً على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة المدينة، كان ذلك في عام 1962 حيث استمر بيلين في طريقه الأكاديمي ليُنهي الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة أنسبروك عام 1970. مع إنهائه دراسته الأكاديمية اتجه بيلين نحو سوق العمل حيث انتقل بين عدة بلدان حتى قفل عائداً إلى جامعته التي تخرّج فيها ليكون أستاذاً مساعداً عام 1976 قبل أن ينتقل إلى جامعة فيينا كعميد لكلية العلوم والاقتصاد الاجتماعي.

خسارة اليمين المتطرف في النمسا رغم كل العقبات التي واكبت وصول اليسار إلى سلطة الرئاسة، تؤشر على عودة صوت العقل النابع من حقيقة إدراك الشعوب الأوروبية لضرورة البقاء في دائرة الانفتاح العالمي في ظل الوحدة الأوروبية السياسية والعسكرية والاقتصادية

فيينا العاصمة أتاحت لبيلين فرصة التواجد عبر مسارَين معاً، الأول هو الحقل الأكاديمي الذي ترك فيه الرجل آثاراً كثيرة والثاني كان الحقل السياسي، إذ انخرط بيلين في صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي وليكون خلال فترة قصيرة المتحدث الرسمي باسم الحزب في المجلس الاتحادي، ثم لينتقل إلى حزب الخضر عام 1994، تلك المظلة السياسية مكَّنته من التواجد تحت القبة البرلمانية كعضو منتخب لدورات تجاوزت الثمانية عشر عاماً متواصلة، تلك المسيرة البرلمانية التي أنهاها الرجل بإرادته حين أخفق حزب الخضر في الفوز بأغلبية المقاعد عقب انتخابات عام 2008، وليعود بعدها إلى الحقل الأكاديمي حيث أصبح مفوض العاصمة فيينا للجامعات والبحوث عام 2010، ليتوقف بعد ذلك عن شغل مقعده كبرلماني في عام 2012 ولينضم إلى مجلس مدينة العاصمة في ذات العام.

الطريق إلى الرئاسة

الرجل الذي برز اسمه كعضو في الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي وكرئيس لحزب الخضر الذي جعل منه القوة الرابعة في البلاد، قرر في عام 2016 أن يخوض السباق الرئاسي أمام اليمين المتطرف، فتقدَم بصفة المستقل المدعوم من حزب الخضر ومن تكتل الأحزاب اليسارية الأخرى في النمسا، وصحيح أن النمسا جمهورية فدرالية ذات نظام برلماني لا يحظى فيها الرئيس بصلاحيات واسعة، لكن بيلين أدرك أن وصول اليمين المتطرف إلى السلطة سيعقبه تبعات سياسية كثيرة تُغيِّر وجه البلاد، فطالما هدد نوبرت هوفر عبر رسائل واضحة المعالم بأنه سيقوم بحل مجلس النواب بناء على صلاحيات الرئيس وسيدعو إلى انتخابات مبكّرة وصولاً إلى قرارات تمسّ الوجود الأجنبي على الأرض النمساوية، لهذا رتَّب بيلين أولوياته قبل خوض السباق الرئيس ليقطع الطريق أمام اليمين المتشدد بشعارات ركّزت على الحرية، الأمن، الانتعاش الاقتصادي، السلام.

الانتخابات النمساوية تعكس حقيقة الصراع العريض في جوهر النظرة إلى الملفات الداخلية والخارجية بين اليمين واليسار الأوروبيين.

أستاذ الاقتصاد المؤمن بوحدة أوروبا والمنفتح على استقبال اللاجئين يوازن في كل طروحاته ساعياً للحفاظ على التعدد الذي اشتهرت به النمسا. وللغوص أكثر في عقلية بيلين ومنهجه في الحياة يكفي أن نعرف اتجاهات منافسه اليميني المتطرف هوفر في الانتخابات الأخيرة، فكما نقول في الأدب العربي، بضدِّها تُعرَف الأشياء، فإنّ هوفر المتشدد لطالما روّج لمشروعه المتكامل من خلال حزب “الحرية”، ذلك المشروع العنصري الذي يقوم على كراهية الأجانب والتحريض ضد اللاجئين، وصولاً إلى فكرة تهديد الوحدة الأوروبية إذا لم تعِد النظر في سياسات فتح باب اللجوء الإنساني والسياسي، هذه الأسباب وغيرها هي التي دفعت حزب الخضر وتكتل الأحزاب اليسارية للاصطفاف خلف بيلين، المرشَّح المناقض لهوفر.

صفعة اليمين المتطرف

خسارة اليمين المتطرف في النمسا رغم كلّ العقبات التي واكبت وصول اليسار إلى سلطة الرئاسة، ما هي إلا دليل على إصرار صوت العقل النابع من حقيقة إدراك الشعوب الأوربية لضرورة البقاء في دائرة الانفتاح العالمي في ظل الوحدة الأوروبية السياسية والعسكرية والاقتصادية، ذلك الصوت الذي وصف مُطلِقوه تقدُّم اليمين بالكابوس، خاصة بعد تصريحات عنصرية لا تحتمل المعاني المتعددة، تلك التصريحات التي تلقَى صدى في كثير من الدول الأوروبية الأخرى، ووصولها إلى السلطة في بلدٍ ما يعني بالضرورة قدرة مثيلاتها في العواصم الأخرى على الوصول، وهذا ما يُنذر بالكارثة على حد وصف المتابعين للبيت الأوروبي.

وأمام هذه الصورة عشية الانتـــخـــــابات النمساوية، أعرب رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر عن قلقه الكبير من فوزِ اليمين المتطرف مُستَذكراً عام 2000 في فيينا حين دخل “يورغ هايدر” المنتمي لحزب الحرية المتطرف إلى تشكيلة الحكومة الاتحادية النمساوية ما أدّى إلى فرض عقوبات أوروبية على البلاد. لا شك أن التطرف الذي بدأ يبرز في السنوات الأخيرة في بعض دول الشرق سيلقى صداه في القارة الأوروبية، وهذه المرة لن يكون التطرف المسلح هناك بصورته هنا بل بصورة تلبس بدلةً سياسية على أكثر من وجه وترتدي النظارات غالية الثمن وتركب السيارات الفارهة، وفي هذا المشهد المسرحي يأخذ الصدى من الدعوة ضد الإسلام والمسلمين ذريعة له لترويج نفسه تحت شعار الحفاظ على الهوية الأوروبية.
[ سياسات ألكسندر فان دير بيلين تضع النمساويين أمام تساؤلات كثيرة عن اتجاهات أخرى معادية للتعددية، على النقيض تماما من مساق بيلين الفكري.

ألكسندر فان دير بيلين الأستاذ الجامعي والحائز على وسام الشرف من الدرجة الذهبية لخدمته الأمة النمساوية عام 2004، ارتدى زيّ المقاتل المدني المستقل الذي أخذ على عاتقه الحفاظ على التعدد في أوروبا، ليظل وفياً لمبادئه التي عاش لأجلها، فاصطفّ خلفه دعاة التعايش السلمي والحفاظ على القيم الأوروبية وسط ترقُّب ساسة أوروبا جميعاً، داعمين إياه في رحلته نحو كرسي الرئاسة، فالرجلُ الذي يوصفُ بالهادئ وصاحب الكاريزما خاض صراعاً طويلاً أنهاه بكلمات قليلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي شكَر خلالها كل الذين دعموه.

السؤال هنا، ماذا لو فاز اليمين المتطرف وخرجَ ألكسندر دير فان بيلين من السباق خاسراً؟ كانت لغة الكراهية ستحكم هذا العالم الذي يتجه في التعصُّب إلى أقصاه ولكان وجود هوفر في الحكم صورة أخرى لوجود الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض.

هي الصورة المأساوية التي لم يمنح القدرُ الفرصة كاملةً لليمين المتطرف لتطبيقها، فوجود سياسي بدرجة أستاذ جامعي ومفكر وضع حدَّاً لطامحين بفرض التشدد الواقع على الضفة الأخرى.

شخصية ألكسندر دير فان بيلين تضعنا أمام تساؤلات كثيرة عن اتجاهات أخرى معادية للتعددية، على النقيض تماماً من مساق بيلين الفكري. هذه الاتجاهات التي تنتهجُ التطرف بدأت بالظهور والمنافسة في الساحة السياسية الأوروبية منذ سنوات، وبمجرد حجز مقعد لها فإن هذا ينذر بالأسوأ وما قد تقتضيه السنوات القادمة من ظروف غرائبية تقترب في توصيفها من العالم السحري الخالي من التعدد، ولكن وجود أشخاص يؤمنون بالفكرة الأسمى لقيام الحضارات البشرية التي قوامها الإنسان يجعل من صورة الخراب سراباً بعيد الحدوث، على الأقل في المدى المنظور بعد سقوط اليمين المتطرف.

بيلين الذي يدخّن أكثر من خمسين سيجارة في اليوم الواحد، يتحدث دوماً عن نظرته بعيدة المدى للمستقبل الأوروبي القائم في جوهره على التشارك بين الجميع، ذلك التشارك الذي يقع في أولويات سياساته التي دافع عنها طيلة مراحل حياته، وهو الذي بدأ طفلاً لعائلة لاجئة من ويلات الحرب التي شنّها الجيش الأحمر الروسي على إستونيا، ليصل إلى أعلى الدرجات الأكاديمية وليتبوّأ اليوم المنصب الأكثر قدرة على التغيير ضمن الصلاحيات الدستورية في النمسا.

8