أفكار سوداء تفترس أعماق الإنسان في رواية يونانية

حفلت العديد من الروايات بتسجيل اللحظات الكبرى في حياة الإنسان التي تعرف الكثير من التحولات التي قد تجعله يغيّر نظرته إلى الحياة، وربما تؤثر فيه فينساق خلف الأحداث غارقا في عوالم جديدة قد لا يستطيع السباحة في تيارها، فيصبح أسير أفكار مظلمة تجعله فريسة الخوف من المصير والمستقبل.
الخميس 2016/05/12
الضياع والحيرة

يحكي اليوناني ذيميتريس ذيميترياذيس في روايته القصيرة "التحوّل" صور التحوّلات التي تجتاح المرء في مختلف أحواله الحياتية. يستهل ذيميترياذيس الجزء الأول من روايته، الصادرة عن المركز القومي للترجمة، ترجمة خالد رؤوف، بسؤال “هل سـأكون المرأة نفسها عندما أعود؟”، وهو سؤال يحمل نظرة استشرافية من قبل بطلة الرواية التي تكون بصدد قضاء بعض أمورها ومتابعة بعض شؤونها الحياتية، كما أنه يحمل في الوقت نفسه نوعا من المخاوف والوساوس التي تستبطن الخشية من التحول، والرغبة فيه في الآن ذاته. ويفرض بدوره سؤالا آخر يمكن أن يثار لدى القارئ، وهو هل يكون مشوار واحد كافياً لتغيير شخصية متبلورة لامرأة يفترض بها أن تكون وصلت إلى مرحلة من النضج؟

مجاز وترميز

التحول الناشئ عن عوامل جوانية والآخر الناشئ عن عوالم خارجية يكونان ميدان اشتغال ذيميترياذيس في عمله. فبطلته التي تخرج من بيتها بطريقة اعتيادية، تصدم باستفزاز الخارج لها بطريقة فظيعة، تسمع صوت ضحك غريب تخيلت أنه لم يكن مصدره إنسانا، لكن زمنه الطويل غير الطبيعي أعطاها الوقت لتفهم أن ثمة شخصاً يضحك، وبينما كان الصوت يستمر بنفس الشكل والتوقيت كان يزداد لديها انطباع أنه لم يكن ضحكاً، بل كان يتشابه بشكل أكبر مع صرخة حيوان يعذب بآلة حادة بضراوة.

ذاك الصوت كان شرارة تحول في حياتها، وربما كان تضخيم ضجيجها الداخلي نفسه، هو نوع من المجاز والترميز بين حالة الضجيج التي يعيشها المرء في داخله، والحالة التي يثيرها ضجيج الخارج بتقاطعاته الكثيرة. تصل لديها حالة الغربة إلى مستوى لم تعهده، تقع فريسة عويل أعماقها من شدة قهر متراكم لا تستدل على سبب واضح معين له، بل يرجح أن يكون نتاج تقاطع عدد من الأسباب والعوامل التي تؤدي إليه وتفرزه في سياقه الزماني والمكاني. الصوت الذي يتعاظم معها، ويخلق في داخلها ضجيجا مزعجا يلقي بظلاله على المدينة، يلون التفاصيل كلها بصخبه وعنفه وأذاه الذي يخلفه لديها ويحولها إلى كائن مذعور كاره لنفسه ومحيطه.

عوالم رواية ذيميترياذيس تتشابه مع أجواء رواية (التحول) لفرانز كافكا، إذ تجد بطلة الرواية نفسها أمام تحول رهيب

تتمعن في ما حولها وفي من حولها، كأنها تختصر رحلة حياة الناس في رحلة الحافلة المكتظة نفسها، تفكر في أسباب الاستمرار ومقومات الصمود والوقوف. ترى الكل يهتز بشكل جماعي إثر اهتزاز الحافلة المستمر. الرؤوس تذهب في مختلف الجهات. تبدو على الجميع علامات الإرهاق المفرط، إلى درجة جعلتها تتساءل كيف يستطيعون الثبات في وضع الوقوف، بل ومن أين تأتيهم القدرة ليمسكوا بالمقابض، الشيء الوحيد الذي من الممكن أن يكون قد ثبتهم هو أن كلاً منهم كان يثبت وضع الآخر واقفا، هذا هو السبب الوحيد الذي يحافظ على توازنهم من السقوط.

بعيدا عن تبلور الشخصية ونضجها، تجد بطلة الرواية نفسها أمام امتحان يومي لا خيار لها فيه، تتجلى حلقة منه في بداية الجزء الثاني المعنون بـ”فهمتها البائعة. لكن ماذا فهمت؟”، تشعر بكم من العنف يتصاعد في كل زوايا المدينة وأرجائها، ابتداء من لحظة خروجها من البيت، مرورا بالشارع ورؤيتها لتفاصيله اليومية التي تبدأ بتلبيسها رؤاها العنفية، أو تصوراتها الذهنية السوداء، وينعكس الأمر على تعاطيها مع الناس، فالبائعة تتبدى ذات سلوك عنفي لفظي غير معتاد معها، وتحار في ذلك، وتنبش في أعماقها عن صورتها الخفية في سلوك البائعة نفسها.

الرجل العجوز الذي يبدو بسيطا عليلاً يستجدي الناس على الشارع، يثير شفقتها بداية حين تمر به، وتلحظ حالته المزرية البائسة، لكن تلك النظرة الأولية لديها تتغير حين تعود وتراه في حالة ثانية، تراه متحديا رجال الإسعاف، يهددهم ويتوعدهم، ويرفض مرافقتهم ومساعدتهم، يتحول إلى وحش ضار يدافع عن بؤسه بتلك الشراسة التي أثارت لديها الكثيرً من الاستغراب والغموض معا.

ظلال كافكا

تسكن بطلة الرواية أصوات الناس المتصادية في مختلف أنحاء المدينة، في مواقف الحافلات والقطارات والأسواق، تراقب مشاهد الناس في حالاتهم المختلفة، تحاول قراءة أعماقهم بناء على تصرفاتهم وأعمالهم، تنغمس في اكتشاف الكثير من التفاصيل والمشاهد اليومية التي كانت تمر بها ولم تكن لتوليها اعتبارا كبيرا أو أهمية معينة، لأنها كانت تراها ثابتة وجزءا من ديكور المكان نفسه، لكنها حين بدأت بتفسير ما وراء المظاهر انصدمت بهول ما تراه وتعيشه، وكانت مفاجأة مفجعة لها.

الوقوع في أسر الحيرة

العنف قار في كل التفاصيل والممارسات، البائعة تتعامل معها بعنف، ترى فيها صورة ذئبة تكشر عن أنيابها، تتجاوز دورها المحدود إلى دور مزعج، تثير قلقها من ذلك، تتعجب إن كان قد تحول شيء ما في مظهرها دفع البائعة إلى هذا السلوك تجاهها، أم أن أفكارها السوداء انعكست على ملامحها وقامت بتظهير الخراب الذي يعترك في داخلها.

كذلك العجوز الذي تبدى لها بسيطا مريضا محتاجا للمساعدة تحول إلى شخص آخر حين ظهر على السطح مَن يحاول انتزاعه من حيزه المألوف لديه، أخرج العنف الغافي في داخله ليهدد مَن يفترض بأنهم يقدمون له المساعدة، ويكون التحول لديه لافتا بطريقة مثيرة للرعب والشفقة في آن.

المدينة نفسها أمام تحول غريب، فالناس يتخلون عن هدوئهم وتعاملهم المحترم، يظهرون العداء إزاءها، تتخيل مَن يحمل مقصا أو أيّ آلة حادة ويقترب منها ليفتك بها، كما تتخيل نفسها في مشهد تقع فيه في فخ أناس يعنفونها وينكلون بها، يفرض عليها التخيل تحولاً لتشبه صورة المدينة التي تتخيلها، لا تلك التي تعيش يومياتها وروتينها وتفاصيلها، أصبح السواد والعنف من معالمها بطريقة لم تكن لتتصورها.

تتشابه عوالم رواية ذيميترياذيس مع أجواء رواية “التحول” لفرانز كافكا، إذ تجد بطلة الرواية نفسها أمام تحول رهيب يجتاح داخلها من دون أن تدري له سببا أو منشأ واضحا، تكون مجموعة من الأسباب المتقاطعة مؤدية إلى هذا التحول، وتكون البطلة غير المسماة صورة عن غريغور؛ بطل كافكا نفسه المتحول إلى حشرة، ثم تحوله إلى عبء على غيره، وتخلصه من أعباء معينة أثناء تحوله، ورمزية التحول بين ما كان عليه وما أصبحه تاليا، وصرة الداخل والخارج ودورهما في الدفع إلى ذلك.

على عكس كافكا الذي رمز إلى تخلص عائلة غريغور منه وإلقائها به خارجا، يحضر دور الآخرين لدى ذيميترياذيس في إرجاع بطلته المأزومة إلى عزلتها ورميها في بيتها وإغلاق الباب عليها بإحكام، ومن ثم التخلص من المفاتيح.

النهاية تحمل نذر عنف متصاعد بدورها، عنف التخلص من الآخر بأيّ وسيلة ممكنة من دون حساب العواقب الوخيمة المحتملة. تصف كيف تم إنزالها من سيارة التاكسي والصعود بها إلى المنزل من قبل بعضهم، فتحوا الباب وألقوا بها في الممر. أغلقوا الباب خلفهم خارجين. في الشارع ألقوا بالمفاتيح في بالوعة.

14