رواية تونسية تتجاسر على الحياء والممنوعات

لم يكن يتوقع أن يتحفنا توفيق العلوي الذي قضّى ثلاثين سنة من عمره يرحل بين متون النحو القديم ومدوّنات اللسانيات الحديثة، هذه الأيّام بإبداع أدبي بعنوان “تعويذة العيفة”، في خيال يضم أنطولوجيا الولادة والموت والحب والغياب، عمل أدبي يتجاسر على الممنوعات والحياء ويمزج الشفوي بالمدوّن والشعبي بالعالمي ويعقد قرانات بين نقائض خلناها لا يمكن أن تقترن البتّة متحرّرة في كلّ ذلك في روحها وليس في شكلها من عقلانية النحو ومراقبته.
سيبويه روائيا
وأنا أقرأ الصفحات الأولى من رواية “تعويذة العيفة” لتوفيق العلوي أطمْئِن قلبي، “سيبويه روائيا”. كلّما تقدّمت في القراءة ازداد يقيني. لغة الرواية، الصادرة عن دار زينب للنشر، تتعتق من جملة إلى أخرى ومن مشهد إلى آخر، مشروع متجدّد من فاتحة الرواية إلى قفلتها يسري سريان الماء في النهر.
غير أنّ هذا المستوى من الرواية على أهميته ليس هو الذي جعل أناملي ترتعش لأوّل وهلة لقراءتها على جناح السرعة. إنّه عنوانها واسم بطلها العيفة وتعويذته. شعرت بحسرة لا تضاهيها إلّا حسرتي على العيفة الهويمل نفسه وأنا أراه ثمّ أرى ابنته راضية في نهاية الرواية: الراضية واللّاراضية تدفعان ضريبة تسمية لم تختاراها لنفسيهما.
كنت قد كتبت مقالا منذ مدّة ونشرته حول دلالات الأسماء عند العرب اعتمدت فيه على كتابات للجاحظ كثيرا ما كنتُ وتوفيق العلوي وثلّة من أقراننا في سنتنا الثانية بالجامعة نقتطف منها نصوصا لتحليلها نحويا معا دون الالتفات إلى مضامينها ودلالاتها، من أفضل المصادر العربيّة القديمة التي نجد فيها قاموسا للأسماء الإشكالية التي قد يشعر بعض أصحابها بما شعر بها العيفة.
الكاتب يعقد قرانات بين نقائض خلناها لا يمكن أن تقترن البتة، متحررة في كل ذلك في روحها وليس في شكلها من عقلانية النحو ومراقبته
من قال إن التراجيديا لا يمكن أن تتحوّل إلى ملحمة؟ الواقع، واقع الرواية وواقع الحياة، يثبت ذلك فكم من اسم أطلقه على صاحبه أهله الفلاحون تعويذة مثل العيفة أو تفاؤلا بأن يكون طالع خير وخصب مثل “العزقال” ليعزق الأرض ويفلحها لتنبت حَبّا وحُبّا صار عند تحوّله إلى العاصمة البورجوازية طالب علم وحُبّ حملا ثقيلا تنوء بحمله الأرض والجبال، ولكن بمجرّد أن يلتحق صاحبه بعاصمة الأنوار فارا بجلده واسمه حتّى يصير أزغال (Azghal) أشبه بالغزال يتغنّى بجماله كلّ لسان وترسمه على شفاههنّ البنات الحسان.
|
الموت والحياة
العيفة يختزل كما لا يمكن لاسم آخر أن يختزله، عصارة يمتزج فيها الموت بالحياة في نخب واحد كما لا يمكن أن يمتزجا في نخب آخر غيره. سمّي العيفة كذلك لأنّه كما يقول مدير المدرسة عند التحاقه بها لأوّل مرّة مخاطبا المعلّم الذي يصفه بأنّه تلميذ ممتاز كلّ ما فيه سمن وعسل إلّا اسمه. سامح الله الأولياء “اسمع أنا أعرف بعض تقاليد وعادات أهل القرية… يجب أن تفهم طريقة التسمية في عائلة العيفة… لقد توفي أربعة من إخوته، ولدان وبنتان ولم يتجاوز كلّ منهم السنين الأربع فسمّاه جدّه العيفة ليعافه الموت ويترك سبيله، وكذلك فعلوا بأخته معيوفة طريقة في التطيّر”.
هكذا سمّي العيفة عيفة ليعافه الموت فإذا بالحياة هي التي تعافه، ما زاد الطين بلّة هو لقبه الهويمل. أهمله الموت بقدر ما أهملته الحياة، فلا هو بالحيّ ولا هو بالميت، في منزلة بين المنزلتين: حيّ ميت. قرأت منذ سنوات طويلة نصّا لفرويد حول الأسماء أظنّه من كتابه “السيكولوجيا المرضية للحياة اليوميّة” يحذّر الوالدين من مغبّة تسمية وليد باسم شقيقه أو شقيقها الميت. عندما يقع الوالدان في هذا الفخّ لأنّهما لم ينجزا عمل الحداد، بلغة النفسانيين على أحسن وجه سيعاملان الابن الحيّ معاملة الميت، يصير كما يقول فرويد موضوعا ميّتا حيّا سيغدقان عليه حنانا وعطفا هو في الحقيقة ليس موجّها له وإنّما لشقيقه الغائب وما الغائب الحقيقي إلّا الحاضر.
تسمية كارثية تهدّد الطفل بالانفصاميّة وبالسكيزوفرينيا. ليت فرويد حاضرا بيننا ليقرأ “تعويذة العيفة” أو أحد تلامذته بما في ذلك أساتذة علم النفس بالجامعة التونسية ليدرك أنّ تركيبة هذا الاسم لجمعه في دال واحد التانتوس والايروس الذي قد لا يوفّره أي اسم بالألمانية واللاتينيّة – والله أعلم- تلخّص الجبرية النفسية القاهرة للكبار رجالا ونساء التي عبّر عنها فرويد في قوله “الطفل أبو الرجل”.
رحلة العيفة من الصبى مرورا بالمرحلة الطلابية بكلية 9 أفريل بالعاصمة المتزامنة مع العمل في حضائر البناء وبعد زواجه من مريم موظفة الداخليّة وإنجابه لبنت كاتبا مبدعا ولكنه متخفٍّ ينشر روايات تلاقي نجاحا باهرا بهويّة كاتب مجهول أطبقت عليه عقدة التسمية– الإخصاء: إخصاء الأب والدولة هي رحلة الهوية الجريحة، رحلة حياة موت لم تنته إلّا في اليوم الذي أعلن فيه تحت قبة البرلمان عن هويته الحقيقية لينتقل من ضيق العبودية في البرلمان إلى رحابة الحرية وراء القضبان!
تعويذة العيفة هي تعويذتنا جميعا في تاريخ تونس المعاصر، تعويذة جيل الاستقلال الذي وُلد مع ولادة الدولة- اللّادولة الوطنيّة! وتذوق ثمرتها، حلاوة وعلقما في ذات الوقت كمن يُجبر على أكل برتقالة: نصفها صالح للأكل والآخر للقمامة. جيل لم تفتح له الدولة -المدرسة أحضانها في كلّ شبر من تراب البلد لتعلّمه وتنتشله من براثن الجهل والتوحّش والبهيمية إلّا لتذيقه بعد ذلك من صنوف الهمجيّة والعذاب أطباقا متعدّدة الروائح والألوان.