ابن خلدون.. رائد تخليص كتابة التاريخ من الأساطير والخرافات

جعلت مدرسة التاريخ الجديد في فرنسا نصب أعينها إعادة كتابة التاريخ الغربي في أبعاده الثلاثة القديم والوسيط والمعاصر بالكشف عن الخرافات والأساطير التي حفلت بها المدوّنات التاريخية القديمة وكان لها تأثير خارج فرنسا في أميركا وروسيا والصين وحتّى لدى مؤرخين عرب جدد رغم أن بعض مبادئها قد صاغها قديما ابن خلدون في مقدّمته.
ومن المعلوم أنّ ابن خلدون قد بلور منهجية جديدة في علم التاريخ لا سلطان فيها إلا للعقل وما يستوجبه من آليات لتمحيص الخبر اعتمادا على القياس، قياس الغائب بالشاهد، وعلى مبدأ السببية وخاصة مبدأ المطابقة الذي يعتبر حجر الزاوية في البناء الفكري الخلدوني.
يقول ابن خلدون في مقدّمته “وإذا كان ذلك كذلك، فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الإخبار بإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران… وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه. وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب في ما ينقلونه وهذا هو غرض هذا الكتاب الأوّل من تأليفنا”.
لا يكتفي ابن خلدون بالتنظير لقانون المطابقة وإنما يتجاوز ذلك إلى التطبيق، ممّا جرّه إلى اكتشاف القوانين الموضوعية التي تسيّر الاجتماع البشري وتُعتبر برهانا لا مدخل للشكّ فيه على حدّ تعبيره، فطفق في مقدمته يعطينا الأدلة على تيه المؤرخين القدامى في الوهم “ومجاوزتهم لحدود العوائد ومطاوعتهم وساوس الإغراب” على حدّ قوله، لا لشيء إلاّ لأنهم أعرضوا عن قانون المطابقة وجهلوا به.
لم نعرف مدينة في العالم شيدها أهلها من النحاس أو الفضة والذهب إلا تلك القصور الخيالية في قصص الأطفال
من هذه الأخبار ما نقله المسعودي في “مروج الذهب” وأخضعه ابن خلدون للتمحيص مبينا بطلانه من كل الوجوه، ونسوق خبرا يتعلق بمدينة غريبة الأطوار بنيت في صحراء سجلماسة جنوب الأطلس الكبير في ما يُعرف اليوم بتافيلات في المغرب الأقصى. لندع ابن خلدون يرو لنا أولا ما نقله المسعودي من قصة هذه المدينة قائلا “وكما نقله المسعودي أيضا في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر، في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاّء ولم يقفوا لهذه المدينة على أثر. ثم أنّ هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأنّ المعادن غاية الموجود منها أن يصرّف في الآنية والخرثيّ "أثاث البيت" وأما تشييد مدينة فكما تراه من الاستحالة والبعد”.
ينفي ابن خلدون صحة هذا الخبر معتمدا أولا على التجربة: بحث الأدلاّء والركاب بدقة عن هذه المدينة ولم يجدوا لها أثرا. لا نعرف هل أنّ هؤلاء على غرار علماء الآثار اليوم قد حفروا في الأرض بحثا عنها أم لا. فعدم وجود أثرها على سطح الأرض ليس دليلا على أنها لم توجد فلعلها وجدت وبفعل الزمن توارت تحت الرمال. فوجودها ممكن على الأقل من الناحية النظرية. فكثيرا من المدن وقع اكتشافها حديثا مردومة تحت الأرض.
من آليات تمحيص الخبر اعتمادا على القياس، قياس الغائب بالشاهد، ومبدأ السببية وخاصة مبدأ المطابقة
تبدو هذه الحجة التي قدمها ابن خلدون في تكذيب ما نقله المسعودي حجة غير مقنعة لا يسلّم بها عقل الإنسان المعاصر بسهولة. ولكن التجربة وأصول العمران علّمتانا أيضا أن الآثار التي ردمت في شمال أفريقيا تحت أديم الأرض ترجع كلها في عصر ابن خلدون إلى ما قبل الإسلام أي إلى عصور الحضارتين القرطاجنية والرومانية. علاوة على ذلك، إذا قسنا المدة الزمنية الفاصلة بين فتح موسى بن نصير للمغرب وعصر ابن خلدون أي سبعة قرون يستحيل أن تردم مدينة بأكملها تحت التراب خلال هذه المدة. وفي أسوأ الحالات يبقى أثر منها فوق الأرض. هذا ما لم يقله ابن خلدون ولعل سكوته عن ذلك يعود إلى اعتقاده في بداهة الأمر، فحجته وإن يرفضها العقل لأول وهلة ويشكك فيها سرعان ما يقبلها بعد التمحيص والتثبت.
الحجة الثانية التي يعتمدها ابن خلدون برهانا لدحض هذا الخبر تتمثل في قانون المطابقة ذاته. فطبيعة هذه المدينة لا تطابق ما جرت به العادة في تخطيط المدن وبنائها لأن المعادن وهي ثمينة كالنحاس يقتصر على استعمالها في صنع الأواني المنزلية ولم نعرف مدينة في العالم شيدها أهلها من النحاس أو الفضة والذهب إلا تلك القصور
الخيالية التي عادة ما نجدها في قصص الأطفال وحدها.
يمكن أن نضيف حجة أخرى إلى الحجج التي لم يستدلّ بها ابن خلدون للتدليل على أسطورية هذه المدينة لكن مستلهمين في ذلك أطروحته في طبيعة العمران وفي الأحوال التي تعرض له في ذاته كما يقول تتمثل في أنّ الذين يبنون مدينة من النحاس في الصحراء قد حكموا على أنفسهم بالعيش في الجحيم، في فرن بأتمّ معنى الكلمة بسبب الحرارة التي لا تطاق في أغلب فصول السنة. وما أبعد أهل الصحراء عن مثل هذه الحماقة وهم الذين خبروا صحراءهم ومناخها وتكيفوا مع أحوالها قد اتخذوا من بيوت الشعر ومن المساكن المبنية بالجبس ملاذا لأنها تكون باردة في الصيف ودافئة في شتاء الصحراء القارس. في الحقيقة نحن لسنا في حاجة إلى التدليل أكثر على أن المدينة خرافية وقد أعفتنا قصة “كل من صعد إليها من أسوارها وإذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر” مؤونة البحث أكثر في خبرها.