"عائد إلى (فيفا)" تأملات قصصية ذات سطرين

يجد المتابع لتجربة القاص المغربي حسن برطال أن هذا الكاتب قد توغل خطوات على حافة القصة القصيرة جدا، من خلال إصداراته المتتالية، في هذا النوع، والتي تثبت حضوره البارز على الساحة الإبداعية المغربية والعربية، إذ يكاد ينفرد في قصه الوامض بضربات خاطفة، تحدث رجات في البناء والتمثل الفردي والجماعي.
لم تخرج المجموعة القصصية الجديدة “عائد إلى ( فيفا )” لحسن برطال، عن الكيفية الكثيفة التي يرعاها القاص بحذر وتأمل، له سنده الفكري والرؤيوي للذات والعالم. لهذا، فالسارد في هذه المجموعة بمثابة جماع حواس يقظة، كلما مرت على شيء، وبالأخص المفارقات السارية والسائرة بيننا، إلا وأصابته بحماها ورجتها.
وبقدر ما تتعدد عناوين هذه المجموعة “فك الحصار، الزوجة الثانية، الحقل الرياضي ـ عايش جوال ـ سليمان ـ الاتجاه الواحد ـ رئيسة التحرير ـ الطفل المهمل…”، تتعدد معها المفارقات ذات الامتدادات في المجتمع والتمثل. في هذه الحالة، القصة تتحول إلى مربع لزج يمتص التناقضات ويضرب على رؤوسها، قصد الكشف عن الخفي والمسكوت عنه. ونقرأ في المجموعة قيد النظر قصة ” درس في الحساب: علمني أبي ثلاث وجبات..الفطور مع الفجر، الغداء وسط النهار والعشاء ليلا…ولما كبرت اكتشفت أن الأوقات خمسة. فكيف سكت أبي عن وجبتين ؟”.
على هذا الغرار، تبرز نوايا الحالات والمشاهد بلغة كثيفة، تحشد لحظات تحول وتوتر القص في حدود سطرين أو نفسين، يمكن نعتهما بـ”البارد والسخون”.
الأول يتعلق بأحدوثة حاصلة في الزمن والمكان واقعا أو تلميحا أو افتراضا، يتم تبئيرها في فعل أو حالة، والثاني يتجلى في إرباك التسطير والترتيب الحاصل في المخيال. ويتحقق ذلك بنفس ساخر ينقر على الماء الذي يجري من تحت الجسور.
ويبدو أن القصة ذات السطرين التي انفرد بها القاص حسن برطال، اقتضت منه الحبك بالفراغ أيضا، المتمثل في البياض الذي يتخلل القصص بشكل لافت للنظر، إلى حد يمكن الإقرار معه أن البياض ميسم هام في التشكيل القصصي لدى هذا الكاتب، بياض لا يساهم في الاختصار والتكثيف فحسب، بل يضغط القصة في مربع يمكن من خلاله التلصص على العالم كنقطة دقيقة تنطوي على حس بالزمن والمكان الغاصين بالنشاط الإنساني المعطوب والباعث على التقزز، وأيضا على السخرية منه بكيفية لذيذة في القصة.
ونقرأ في نفس المجموعة قصة “الكرة الأرضية”؛ “البارصا والريال في النهاية، جميييييييل… أوروبا تستعد… آسيا تستعد.. أميركا تستعد… أستراليا تستعد… أفريقيا تستعد… إنها ليست نهاية أسبانية، بل نهاية العالم”.
على هذا الغرار، قصص المجموعة تحاور ما يجري في الواقع والشعار أو التمثل، بحس نقدي يبعث رسائل في كل الاتجاهات، دون تقريرية فجة أو نسخ بارد.
مجموعة “عائد إلى ( فيفا )” تأملات قصصية في المفارقات والتمثلات. وقد يذهب القاص حسن برطال في تشكيلها ولو من خلال العناوين إلى محاورات لنصوص ومأثورات، مما يؤدي إلى التحوير والتحويل، ليس بالقول فقط، بل بالإشارة والتلميح اللذين تتحول معهما القصص إلى مشاهد بارقة على غرار الرسوم المتحركة التي تتركك ضاحكا ولو من ذاتك المعلبة، بينما يستمر القاص في نحت متوالياته السردية والتي هي في حاجة دائمة إلى الكشف والمحاورة. تعضيدا لما سبق، نفتح قصة “حفل تأبين” “يقفون دقيقة (صمت) ترحما على المتوفى.. وأنا (أصرخ) واقفا في وجه وطني كل دقائق عمري كي لا يكون بلدا ميتا…”.
ما إن تتابع إصدارات حسن برطال، حتى يزداد تقديرك لمنجزه القصصي، لأنه على انشغال دائم بطريقة قصصية ترسخت ملامحها في مسيرة القصة القصيرة جدا. وهو بذلك له إضافاته الجمالية في هذا النبوغ شائك التكوين والمفتوح دائما على الإضافات، تبعا للطاقات التخييلية والجمالية للمبدعين.