زمان كان لنا بيت
فاجأتني رسالة حزينة ومعبرة على صفحتي الشخصية بموقع التواصل الإجتماعي “الفيسبوك” كتبتها طفلة عمرها عشر سنوات تحتوي على العديد من الأخطاء الإملائية ولكنها مشحونة بالحب والشجن غير المباح لطفلة في العمر الطازج، تقول فيها “أرجو من حضرتك أن تجعلي بابا يوافق على طلب الصداقة على الفيسبوك، ليس لي ذنب في طلاقه هو وماما”، الرسالة طويلة جدا وحزينة بما يفوق عمر الطفلة.
ما فهمته من تعبيرات الطفلة الموجعة، قالت “زمان كان عندنا بيت جميل نسكنه أنا وماما وبابا وأخي الرضيع، كنت أستمع للموسيقى وألاعب أخي وألهو بالساعات مع أبي، يحملني على ظهره ويلف بي الشقة كلها وتتعالى ضحكاتنا وماما تصنع لنا الكيك والشاي الساخن، ولكن للأسف أبي ترك البيت وذهبت مع أمي للمحكمة لأقول لهم أن أبي إنسان سيء، حفظت كلاماً كثيراً لا أفهم معناه حتى أقوله هناك أمام رجل غريب يسمى ‘القاضي’، قلت له إن أبي يرفض الإنفاق علينا ويضربنا ـرغم حنانه عليناـ كذبت لأرضي أمي فخسرت أبي وضاعت حياتنا، واليوم لم يعد أبي كما كان حتى أنني لا أراه أبداً، وحين أرسلت له طلب صداقة ورسالة حب وشوق لم يرد علي مطلقاً. كانت أمي تتشاجر مع أبي أمامي أنا وأخي فيفزع الصغير وأبكي كثيراً وبعد ساعات يتصالحان بصوت هامس ولكنني لم أكن أسمع غير الصراخ والشجار، فهو يحدث أمامي بصوت عال، أما الصلح فلا أرى مقدماته ولا أعرف تفاصيله”.
أحزنتني الصغيرة، فبرغم براءتها أدركت المعنى الحقيقي للانفصال وتمزيق كيان الأسرة، استشعرت مرارة فقدان البيت بمعناه واحتوائه لنا.
الطلاق حادث جلل في حياة الأطفال ويؤثر قطعاً بالسلب على أدائهم الدراسي، وكذلك الحياة في ظل المشاجرات المتواصلة بلا انقطاع أسوأ تأثيراً وأكثر ضرراً، إذ يؤثر الصراع الدائم بين الزوجين بالسلب ليس فقط على الأداء الدراسي للأطفال وإنما على أدائهم الاجتماعي، ويخلق شخصيات هشة قابلة للكسر والتحطم مع أول مشكلة.
الطفل هو أول ضحايا الخلاف الأسري، والطفل الذكر يكون أكثر عرضة لسلبيات الانفصال حيث يفقد القدوة المعلمة وصورة الأب الذكر المربي، فلا يجد من يتوحد معه أو يقلده فتتقاذفه الأيادي خاصة من ضعاف النفوس، ولكن الطفلة الأنثى أوفر حظاً، حيث تتوحد مع الأم وتستشعر همها وتتعاطف معها كونها الطرف الأضعف.
قد يكون الطلاق نقطة فاصلة ولحظة فارقة في حياة زوجية أصبحت مستحيلة البقاء، ولكن مراعاة نفسية الطفل ضرورة هامة حتى لا يجني ثمار علاقة لم يكن سبباً لبدايتها ولكنه أصبح حتماً مبرراً لاستمرارها وإنجاحها.
حين قدمت الطبيبة النفسية كريستينا ستينورث كتابها “بطاقات جدلية من أجل الحياة” أكدت فيه ارتفاع نسبة انهيار الحياة الزوجية لأبناء الطلاق عن غيرهم ممن عاشوا حياة زوجية وأسرية مستقرة في كنف أبوين مستقرين اجتماعياً ويتمتعان بهدوء عائلي.
وبصفة عامة.. الأزواج حين يتشاجرون تعلو أصواتهم بالصراخ ويتصالحون بالهمس، يحبون في صمت ويكرهون على مرأى ومسمع من أبنائهم فتتكون لدى الصغار خلفيات مزعجة عن تجربة الزواج والحياة عامة، ماذا لو اخترنا مكاناً نتشاجر فيه حتى لا نزعج الصغار بمشاكلنا، ونعلمهم الحب بدلاً من العنف.
ابهرتني إحدى صديقاتي بقولها “لقد استعنت أنا وزوجي إشارة ‘الوقت المستقطع’، حيث أحتفظ لنفسي وكذلك هو بحق الرد ومناقشة الأمور المستفزة بيننا في غيبة من الأولاد، والتي غالبا ما تبدأ بنقاش هادئ ثم صراخ وأحيانا عنف لفظي، لكن غالبا ما تنتهي بالصلح حتى ولو بعد أيام.