جان فيليب توسان يحول ضربة رأس زيدان إلى نص أدبي

الأحد 2016/03/20
جان فيليب توسان: الأدب والكرة والمجتمع والأعماق الغامضة للكائن

كان ذلك في مدينة ليون الفرنسية آخر أيام شهر نوفمبر2006 الباردة. كنت أجوب المكتبات بحثا عن جديد الإصدارات التي قدمت الكثير منها على صفحات جريدة “لابريسّ”التونسية. لو لا شهرة جان فيليب توسان الذي كنت قد التقيته في ديسمبر 2002 بدار المعلمين العليا بتونس حيث جاء لتقديم روايته الأخيرة، “ممارسة الحبّ”، لما كنت اهتممت بكتيّب “ميلانخوليا زيدان”.

إذ بدا لي أنّ العنوان يشتكي شيئا من التملق، فما علاقة زين الدين زيدان بالميلانخوليا؟ صحيح أنّ زيدان لاعب ماهر لطالما عانى من العدوانية وربما من الفظاظة مثلما فعل مع اللاعب السعودي خلال كأس العالم سنة 1998، لكن لا علاقة له بالقلق، السأم، الضجر، الملل أو “فيض المرارة السوداء في ليلة منعزلة”، تلك الصفات التي تميز الشعراء عن غيرهم من الناس.

إنما لا يبدو هذا رأي جان فيليب توسان الذي يدخلنا منذ مطلع النص في عالم يلتحم فيه الأدب بكرة القدم وذلك عبر تناغم عجيب للسرد مع الشعر “كان زيدان ينظر إلى سماء برلين دون أن يفكّر في أيّ شيء، سماء بيضاء مع سحب رمادية ذات بريق أزرق، إحدى تلك السماوات الشاسعة والمتحولة المتعلقة بالريح في فن الرسم الفلمندي، كان زيدان ينظر إلى سماء برلين فوق الملعب الأولمبي مساء التاسع من يوليو 2006، وكان يشعر بشدة خانقة بإحساس كونه هنا، بكل بساطة هنا، في الملعب الأولمبي ببرلين، في هذه اللحظة بالذات من الوقت، مساء نهائي كأس العالم لكرة القدم”.

يُعبِّرُ هذا الوصف المشفوع بالخطاب الحر غير المباشر عن تعجب زيدان من كونه “هنا” وفي الآن ذاته عن تعجب الكاتب الذي يرى نفسه في اللاعب حيث يقول “ميلانخوليا زيدان ميلانخوليائي الشخصية، أعرفها، غذيتها وأعاني منها”. ويصل هذا التعرف إلى حد التماهي حين يستشهد جان فيليب توسان مرتين بروايته البكر “غرفة الحمام”. وعندما يستشهد بجون ستروبنسكي، سيغموند فرويد وغاستون باشلار، فليس ذلك كتلك “الباننكا” التي قام بها زيدان والتي اعتبرها توسان “احتفاء لا إراديا بحلقة أسطورية من مسلسل كأس العالم”، بل تمكّنه هذه المرجعيات الأدبية والفلسفية من “أستقة” أو إضفاء بعد “إستيتيقيّ” أو جمالي على “الحركة المفاجئة” لزيدان. نعم، إنها نظرة للعالم، فهي تشرّع لهذا الحدث الكوني الفوضوي الذي وقع في برلين ليلة 9 يوليو 2006 “أوقف الحكم المباراة، وجرى الجميع في كل الاتجاهات على العشب، باتجاه اللاعب المطروح أرضا وباتجاه حكم الخط الذي تجمّع حوله عدد من اللاعبين الإيطاليين، كانت نظراتي تجوب يمنة ويسرة، وبعد ذلك ركزت في منظاري على زيدان، تلقائيا، النظرات تتوجه إلى زيدان، شبح زيدان داخل قميصه الأبيض، وهو واقف في الليل وسط الميدان، ووجهه مُكبُّرٌ في مجهر منظاري…”.

لماذا زيدان؟ هل يجب النظر نحوه أولا عندما تحلّ الفوضى بسبب كونه الهداف وأفضل لاعب وقائد الفريق؟ أو لأنه حسب نظر جان فيليب توسان اللاعب الميلانخولي الوحيد في الميدان؟ في كل الحالات، بعد أن وقع فكّ اللغز، أشهر الحكم “بطاقة الميلانخوليا السوداء” في وجه زيدان. وانطلاقا منها شرع الأديب في خوض فعل التفكير هذا عن الميلانخوليا بإعلاء “الحركة المفاجئة” للفنان “كان لضربة رأس زيدان صفتا المباغتة والرسم الدقيق لحركة في فن الخط”.

توسان يُشَرِّعُ لحركة زيدان المفاجئة

لكن، عندما نتحدث عن فن الخط، فنحن نتحدث عن كتابة في حالة حركة، عن إيقاع، عن تفكير، عن معرفة وخاصة عن “تمشٍّ بطيء” وعن “تكوين طويل سريّ ولا مرئي”. شأنه شأن فن الخط العربي الذي يتميز به نجا المهداوي أو حسن المسعودي، فن زين الدين زيدان يتجاوز الكمال التقني ويرتقي، بفضل لعب القدمين، المراوغات، التمريرات الدقيقة، قطع اللعب، إعادة تنظيمه، الهجوم والدفاع، إلى السموّ الفني.

وحيث لا يفعل الآخرون سوى اللعب، زيدان يرقص ويرسم. لن تكون إذن ضربة الرأس تلك، أو “الدماغ”، وصمة عار من شأنها أن تقلل من شأن زيدان أمام عشاق كرة القدم. وربما هذا سر تلك العبارة اللاذعة التي استعملها جان فيليب توسان “تُعْتَبرُ حركة زيدان اللامرئية وغير المفهومة شديدة الفرجوية خاصة وأنها لم تحدث قطّ”. هل هي ضرب من البلاغة؟ ربما هي كذلك! لكن لم ير أحد فعلا رأس زيدان يلمس صدر ماتيرازي، في حين “وحدها الحماسة الطريدة كانت مرئية في عيون مشاهدي العالم بأسره”.

إن كان جان فيليب توسان يُشَرِّعُ لحركة زيدان المفاجئة، فإنه يفتح خاصة أعيننا على السلطة اللامتناهية التي تمتاز بها الكاميرات وهي التي باتت قادرة على تغيير السير التاريخي للأمور. ليست “ميلانخوليا زيدان” بالقصة ولا بالمقالة ولا بالقصيدة ولا بالرسالة النقدية أو الهزلية، إنها عمل أدبي وحسبه أنْ يعيد النظر في علاقتنا بالواقع.

في هذا السياق، صاحب “آلة التصوير” (1989) و”التلفزيون” (1997) يواصل على طريقته أبحاث غي ديبور الذي برهن من خلال “في الليل ندور بلا هدف ونحن نحترق بالنار” حالة الاغتراب التي نعيش ومدى استحواذ “مجتمع الفرجة” علينا.

ميلانخوليا زيدان: ضربة رأس هي ما فوق الخير والشر

كان زيدان ينظر إلى سماء برلين دون أن يفكّر في أيّ شيء، سماء بيضاء مع سحب رمادية ذات بريق أزرق، إحدى تلك السماوات الشاسعة والمتحولة المتعلقة بالريح في فن الرسم الفلمندي، كان زيدان ينظر إلى سماء برلين فوق الملعب الأولمبي مساء التاسع من يوليو 2006، وكان يشعر بشدة خانقة بإحساس كونه هنا، بكل بساطة هنا، في الملعب الأولمبي ببرلين، في هذه اللحظة بالذات من الوقت، مساء نهائي كأس العالم لكرة القدم.

حتما مساء هذا النهائي لم يتعلق الأمر إلاّ بالشكل والميلانخوليا. أوّلا، وفي الحال، يتعلق الأمر بالشكل في نقاوته، ركلة الجزاء التي سجلها زيدان في الدقيقة السابعة، باننكا (مرتخية اسم طريقة ركلة جزاء، مأخوذ من اسم لاعب تشيكي كان ينفذها كذلك) أصابت القائم العرضي ثم تجاوزت الخط وخرجت من المرمى، مسيرة بيلياردو، تشابه في مداعبتها الضربة الأسطورية لجوف هورست في ومبلاي سنة 1966. لكن لم يكن ذلك سوى شاهد، احتفاء لا إرادي بحلقة أسطورية من مسلسل كأس العالم. الحركة الحقيقية لزيدان مساء هذا النهائي -حركة مفاجئة كفيض المرارة السوداء في ليلة منعزلة- لن تحدث إلا في ما بعد وستمحو كل شيء، نهاية المباراة والوقت الإضافي، ركلات الترجيح والمنتصر، حركة حاسمة، عنيفة، سوقية وروائية: لحظة غموض تام تحت سماء برلين، بعض ثوان من التأرجح شديد الدوران، حيث الجمال والسواد، العنف والعشق يتصلون ببعض ليتسببوا في تماس لحركة لم ترها عين من قبل.

كان لضربة رأس زيدان صفتا المباغتة والرسم الدقيق لحركة في فن الخط. إن لم يتطلب القيام بها إلا بضع ثوان، فإنها لم تحدث إلّا بعد تمش بطيء من النضج، إلّا بعد تكوين طويل سرّي ولا مرئي

كان لضربة رأس زيدان صفتا المباغتة والرسم الدقيق لحركة في فن الخط. إن لم يتطلب القيام بها إلا بضع ثوان، فإنها لم تحدث إلّا بعد تمش بطيء من النضج، إلّا بعد تكوين طويل سرّي ولا مرئي. حركة زيدان تجهل الفئات الإستيتيقية للجميل أو للأغر، إنها تتموقع في ما هو أعلى من الفئات الأخلاقية للخير والشر، قيمتها، قوتها وماهيتها لا تتعلق إلا بمطابقتها اللامشروطة للحظة دقيقة من زمن حصولها. تياران شاملان وسريّان جاءا بهذه الحركة من بعيد: الأول، من العمق، عريض، صامت، قوي، عنيد، متأت في الآن ذاته من الميلانخوليا المحضة ومن الشعور الأليم لتدفق الزمن، مرتبط بحزن النهاية المعلنة، بمرارة اللاعب الذي يخوض آخر مباراة في مسيرته والذي لا يمكن أن يقبل بالنهاية. ما كان زيدان ليقبل أبدا بالنهاية، إنه متعود على الخروج المزيف (ضد اليونان) أو الخروج الفاشل (ضد كوريا الجنوبية).

كان دائما من المستحيل لديه إنهاء مسيرته، وحتى لو كان ذلك، أو خاصة لو كان ذلك، بطريقة جميلة، لأن إنهاءها كذلك يعني للأسف النهاية، أي إغلاق الأسطورة: رفع كأس العالم يعني القبول بالموت، في حين أنّ الفشل في الخروج يسمح بفتح الآفاق، الآفاق المجهولة والحيّة. التيار الثاني الذي دفع بحركته، وهو تيار مواز ومتناقض، يغذّيه إفراط في الحزن وتأثير كوكب زحل عليه، يتمثل في الرغبة في الانتهاء بسرعة من كل شيء، في الرغبة العارمة في مغادرة الميدان بشكل مفاجئ والرجوع إلى حجرة الملابس (رحلتُ بشكل مفاجئ ودون أن أعلم أي شخص- توسان، “غرفة الحمام” -رواية)،لأنّ الملل هنا مفاجئ، لا متناه، التعب، الإنهاك، الكتف المتسببة في الألم، زيدان غير قادر على التهديف، لم يعد يقدر على تحمل رفاقه ولا خصومه، لم يعد قادرا على تحمل العالم وحتى نفسه. ميلانخوليا زيدان ميلانخوليائي الشخصية، أعرفها، غذيتها وأعاني منها. يصير العالم قاتما، تصير الأعضاء ثقيلة، تبدو الساعات وكأنها في حالة سكون، تبدو أكثر طولا، أكثر بطءا، ولا نهاية لها (المرجع السابق).

يحسُّ بالإنهاك ويصيرُ شديد التّشنّج. “شيء ما بداخلنا ينقلب ضدّنا” (جان ستاروبنسكي، “حبر الميلانخوليا“). وفي حالة ثمل من التعب والضغط العصبي، ليس بوسع زيدان إلا أن يلجأ إلى فعل العنف الذي يكون به الخلاص، أو الهروب الذي يعيد الطّمأنينة، لأنه غير قادر على فكّ العقدة العصبية التي تستبد به بطريقة أخرى “وهذا هو الهروب النهائي أمام استكمال العمل (سيغموند فرويد، ذكرى من طفولة ليوناردو دا فنشي)”.

منذ بداية الوقت الإضافي، ما انفك زيدان يعبّر عن قلقه بطريقة لا واعية مع شارة القيادة التي ما برحت تسقط، شارة القيادة تلك التي تتوسَعُّ والتي أضغن في شدِّها على ساعده بطريقة غير متقنة. هكذا يعبّر زيدان ورغما عنه عن رغبته في مغادرة الملعب والرجوع إلى غرفة تبديل الملابس. لم تعد له الإمكانيات، أو القوة، الطاقة، الإرادة للقيام بعمل جبار أخير، حركة أخيرة تكون الشكل الأكثر نقاوة -ضربة الرأس، وما أجملها من ضربة تلك التي صدّها بوفّون بضع لحظات من قبل ستفتحُ عينيه نهائيا على وهنه الذي لا دواء له. يغيب عنه في الحاضر الشكل- وهذا ما لا يقبله أيّ فنان، لأننا ندرك العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الفن والميلانخوليا. إن كان غير قادر على شد الأذهان بهدف فسيتمكن من شد الأذهان.
عمل أدبي يعيد النظر في علاقتنا بالواقع

أقبل الليل الآن في برلين، انخفضت الكثافة الضوئية، وفجأة أحس زيدان بدنيًّا أنّ السماء تسودُّ فوق كتفيه، لم يتبقّ في السماء إلاّ أذيال متقطعة من الغيوم الشفقية السوداء والوردية. “الماء الممزوج بالليل ندم قديم يرفض أن يخلد للنوم (غاستون باشلار، الماء والأحلام)”.

لم يفهم أحد في الملعب ما الذي جرى. من مكاني في مدارج الملعب الأولمبي، تابعت استئناف المباراة، الإيطاليون يعودون إلى الهجوم والحركة تبتعد باتجاه المرمى المقابل. بقي لاعب إيطالي طريح الأرض، كانت الحركة قد تمّت، كان قد تمكن الآلهة العدائيون للميلانخوليا من النيل من زيدان. أوقف الحكم المباراة، وجرى الجميع في كل الاتجاهات على العشب، باتجاه اللاعب المطروح أرضا وباتجاه حكم الخط الذي تجمّع حوله عدد من اللاعبين الإيطاليين، كانت نظراتي تجوب يمنة ويسرة، وبعد ذلك ركّزت في منظاري على زيدان، تلقائيا، النظرات تتوجه إلى زيدان.

شبح زيدان داخل قميصه الأبيض، وهو واقف في الليل وسط الميدان، ووجهه مُكبّرٌ في مجهر منظاري، وحارس المرمى الإيطالي بوفّون يهبُّ نحوه ويشرعُ في محاورته وفي تدليك رأسه، في تمسيد جمجمته ورقبته، في حركة مفاجئة، مُداعِبَة، مُحْتَوية، في حركة كالتّعميد، كالذي نقوم به لطفل، لمولود جديد، لتهدئته، لبعث السكينة فيه. لم أفهم شيئا من الذي حصل، لم يفهم أحد من الحاضرين في الملعب ما حصل، اتجه الحكم نحو المجموعة الصغيرة من اللاعبين حيث زيدان وأخرج من جيبه بطاقة سوداء أشهرها في وجه سماء برلين، وفهمت أنها كانت موجّهة لزيدان، تلك البطاقة السوداء للميلانخوليا. (هنا إيحاء إلى إحدى أشهر الصور الشعرية للأديب جيرار دي نرفال (1808-1855) الذي يقول في قصيدته “الملعون”، “نجمتي الوحيدة ماتت، وعودي المرصّع/يحمل الشمس السوداء للميلانخوليا”-المترجم).

تُعْتَبرُ حركة زيدان اللامرئية وغير المفهومة شديدة الفرجوية خاصة وأنها لم تحدث قطّ. إنّها بكلّ بساطة لم تحدث إن اقتصرنا على الملاحظة المباشرة للأحداث في الملعب وللثقة المشروعة التي نمنحها لحواسنا، لم ير أحد أيّ شيء، لا المشاهدون ولا الحكّام. لا فقط إنّ حركة زيدان لم تحدث، لكن وإن حدثت، حتى وإن انتابت زيدان الإرادة المجنونة، الرغبة أو الهاجس لضرب أحد منافسيه بالرأس، لم يكن لرأس زيدان أن يصل إلى المنافس، لأنّ كل مرة يحاول فيها رأس زيدان عبور نصف الطريق التي تفصله عن صدر المنافس، يبقى له أن يعبُرَ النصف الآخر، ثم نصفا آخر، ثم نصفا آخر كذلك، وهكذا دواليك إلى الأبد، بحيث أنّ رأس زيدان، وهو يتقدم دوما نحو هدفه لكن دون أن يصل إليه أبدا، وكأنه في مشهد بطيء وقع تركيبه ليعاد باستمرار، لن تتمكن أبدا -وهذا فيزيائيا وحسابيا أمر مستحيل (إنّه تضاد زيدان، إن لم يكن تضاد زينون)، من الوصول إلى صدر المنافس- أبدا، وحدها الحماسة الطريدة كانت مرئية في عيون مشاهدي العالم بأسره.

كاتب تونسي

16