بوعي بيداغوجي حاد عبدالعزيز شبيل أعطى الجميع مفاتيح عوالم النقد الأدبي

أكاديمي ترك بصمة لا تمحى في الثقافة التونسية من داخل الجامعة وخارجها.
الأحد 2025/01/19
التأثير الثقافي يتجاوز الحضور في دروس الجامعة

لم تكن الجامعة التونسية مؤسسة مغلقة ومحصورة في درسها الأكاديمي بعيدا عن الحراك الثقافي. فقد قدم حقل البحث العديد من الأسماء التي صارت رموزا ثقافية في نشاطاتها ومؤلفاتها، وإن تفاوت تأثيرها، فإنه يبقى منها الأكثر رسوخا أولئك الذين اختاروا فتح آفاق الدرس العلمي والتحفيز على البحث وتعميم المعرفة، ومن هؤلاء الأكاديمي عبدالعزيز شبيل، الذي نعاه مؤخرا طلبته ووزارة الثقافة التونسية وكل محب للمعرفة.

يوم الجمعة 10 يناير 2025 يوم حزين ضارب في السواد، فقد ترجل واحد من آخر عمالقة الجامعة التونسية، الدكتور والأستاذ عبدالعزيز شبيل.

قبل يومين، كنت في حي سهلول بمدينة سوسة حيث يقطن، كنت صحبة طالبته وابنته الروحية الدكتورة مريم الدزيري، التي أشرف على أطروحتها المنشورة تحت عنوان “الحكاية الرمزية الصوفية في القرنين السادس والسابع الهجريين. خصائصها الفنية ودلالتها الفكرية”، التي نشرت سنة 2021 مع مقدمة كتبها شبيل بنفسه.

مرجع ومرجعية

بوكس

نستقي من مقدمة شبيل هذا القول “إن ما توصلت إليه الباحثة مريم الدزيري يفتح مجالات بحث فسيحة، ويثير من القضايا ما يحفز الباحثين على ارتياد هذا العالم الفني الذي ما زال بكرا في عديد جوانبه. كما يقيم الدليل على أنه لا يمكن لأيّ ثقافة أن تنعزل عن الثقافات الأخرى، بل تتعايش معها وفق جدلية الأخذ والعطاء، ومنطق التأثر والتأثير. كما يؤكد أن الفنون والأجناس الأدبية ترتحل أو ترحل من حضارة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، فتكيّفها وتطورها وتخضعها لعبقريتها الخاصة بما يجعل الأدب حركة دؤوبا لا تعرف سكونا؛ إن هي إلا تفاعل خلاق وإبداع مستمر حي حياة الإنسانية الساعية دون كلل إلى ارتياد المجهول، والبحث عن إجابات مقنعة عن أسئلتها الحارقة بشأن الوجود والكينونة والمصير.”

وكنا نعلم بأنه مريض منذ فترة. اتصلنا به مرارا وتكرارا، لكن دون جدوى. وتضاعفت مخاوفنا بسبب صمته وهذا ما جعلنا نتخيل الأسوأ. وللتخفيف من وطأة شوقنا إليه، قررنا اللجوء إلى مقهى “توسكانا” الذي كنا قد تقابلنا فيه سويا في وقت سابق، وكان كذلك يقع في حي سكناه. لم نكن واهمين ممنين أنفسنا بوجوده هناك، بل كنا نقتفي في ذلك المكان آثاره وربما أطلاله الجميلة وهو البشوش الرصين والمازح الذكي والصارم الحنون.

اليوم فهمنا أنه كان يصارع المرض بعيدا عن الأنظار وكأنه يحافظ علينا من وطأة الألم. نعم، كان عبدالعزيز شبيل كريما وبسبب هذا الكرم كان يرفض مشاركتنا أوجاعه ومعركته الأخيرة مع المرض. ربما كانت عزة نفسه وأنفته تمنعه من إظهار أيّ ضعف أمام الآخرين، وهذا من حقه وليس من حقنا لومه، لكن يبدو لي شخصيا أن موقفه – إراديا كان أم لا – سليم جدا، فعلينا مشاركة الأشياء الجميلة كالحب والفن والحياة، أما نقيضها فلا.

قرأت للدكتور عبدالعزيز شبيل منذ نعومة أظفاري مقدمات ودراسات وأعمال نقدية وفكرية (عن الأديب التونسي فرج الحوار والأديبة السورية غادة السمان على سبيل المثال) أثرت في تركيبتي الأكاديمية والعلمية، لكن بقي صدى صوته مدويا في مخيلتي على جناح الأثير (عبر تردد عروس البحر إذاعة المنستير)، حيث أنني بصفتي شاعرا تونسيا ناطقا بالفرنسية ثم طالبا فباحثا فجامعيا شابا، أعتبر قراءاته الشعرية وحواراته الفكرية والنقدية صحبة رفيق دربه الأستاذ الراحل محمد بن صالح من أجمل ما جادت لنا به المؤسسات الثقافية العمومية، وهو فن لا يدري به إلا كبار الباحثين والمفكرين أمثال الدكتور عبدالعزيز شبيل الذي يعتبر لا محالة قامة من قامات الجامعة التونسية، أي أنه مرجع ومرجعية في الآن ذاته.

وعي بيداغوجي

يندرج عمل شبيل في هذا السياق بالتحديد، فهو ينطلق من الرغبة الجامحة التي تتمثل في تلخيص الأمور وحوصلتها وتفكيكها وتبسيطها في حركة فكرية واحدة مجتمعة متماسكة، تجعل من الجامعي الباحث علامة كبيرة بفضل قدرته على التشكيل النهائي لعمل مثل هذا الذي أهداه إلينا خلال الفترة الأخيرة من حياته والمتمثل في “معجم المصطلحات الأدبية والبلاغية واللسانية باللغتين العربية والفرنسية”.

◄ الأكاديمي التونسي كان ينطلق أساسا من الرغبة الجامحة التي تتمثل في تلخيص الأمور وحوصلتها وتفكيكها وتبسيطها

تلك الرغبة تنبثق تحديدا من وعي بيداغوجي حاد يطمح إلى تمكين الطلبة من الولوج بطريقة سليمة إلى عالم النقد الأدبي المعقد واللامتناهي في نفس الوقت وذلك لتعدد المدارس والنظريات والأطروحات والمرجعيات والفرضيات من جهة؛ ومن جهة أخرى بسبب التخصيص الذي ما انفك يفرض نفسه منذ اعتبار الدراسات الأدبية والنقدية اختصاصا مستقلا بذاته منذ ولادة الجامعة الحديثة والعلوم الإنسانية خلال القرن التاسع عشر. وللناظر في ذلك أمثلة عدة في شتى الميادين من الطب إلى القانون مرورا بالهندسة والكيمياء والفيزياء وغيرها من المجالات التي تخلق يوميا اختصاصات وسط الاختصاصات وعلوما وسط العلوم.

عبّر عن ذلك رولان بارت في نص تاريخي وهو “درس”، تحديدا الدرس الذي قدمه يوم 7 يناير1977 لكرسي السيميولوجيا الأدبية بالكوليج دو فرانس بباريس بقوله “ها نحن أمام السيميولوجيا. ينبغي أن نذكر في البداية أن العلوم (على الأقل تلك التي أعرفها) ليست أبدية، إنها قيم تعرف الصعود والنزول في بورصة هي بورصة التاريخ، وربما يكفي في هذا الصدد أن نذكر المآل البورصي للثيولوجيا أو علم الكلام، وهو خطاب ضيق اليوم بعد أن كان قديما سيد العلوم إلى درجة أنهم كانوا يضعونه خارج أو فوق ‘سابتينيوم‘ وهي المعرفة المحضة في القرون الوسطى.”

يبرز هذا القول جوانب كثيرة، لكن ما يهمني هنا أن العالم يتغير ويتقدم ويتساءل ويعيد النظر في نفسه، وعلينا حتما طرح الأسئلة الصائبة كي نصل إلى الأجوبة البناءة، أي تلك التي يمكننا من خلالها التأسيس. فنحن ما نزال حتما في مرحلة التأسيس لمدارس وجامعات بغية تكوين أنتلجنسيا حقيقية من شأنها أن تأخذ المشعل وتواصل المشوار، وهذا ما يبدو لي هنا، من خلال هذا العمل، فقد اشتغل الدكتور شبيل على مراجع متعددة أمثال أعمال جيرار جينات في “الناراتولوجيا” أو “علم السرد” المعقد والمغذي على حد السواء، وأعمال ألخيرداس جوليان غريماس وجوزيف كورتيس من خلال “السيميائية: المعجم المعقْلنْ في نظرية اللغة”، وغيرها من المصنفات التي تخيف طالبي العلم بقدر ما تجعلهم يعزفون عن البحث والتمحيص فيلجؤون في أفضل الحالات إلى الإنترنت وما فيها من غث وسمين.

بوكس

العلم والأدب

في الحقيقة، ذكّرني نص رولان بارت الثري بنص آخر وهو “مقالة الطريقة” لروني ديكارت، الفيلسوف أب العقلانية الحديثة. والسبب في ذلك أن ديكارت شأنه شأن بارت يستعملان ضمير المتكلم في الكتابة، وهذا شيء طريف في الإطار الجامعي والأكاديمي الذي يفرض علينا التجرد والحياد وتغييب الأنا وما تكتنزه من ذاتية وانطباعية.

الأمر مغاير هنا، يقول ديكارت “يمكننا أن نجد، بدلا من الفلسفة النظرية التي تعلّم في المدارس، فلسفة عملية، إذا ما عرفنا بواسطتها ما للنار والماء والهواء والكواكب والسماوات وسائر الأجسام الأخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال معرفة متميزة كما نعرف آلات صناعنا، استطعنا أن نستعملها بالطريقة نفسها في جميع ما تصلح له من الأعمال، وأن نجعل أنفسنا بذلك سادة الطبيعة ومالكيها.” (الفصل السادس من “مقالة الطريقة”).

هذا ما علينا فعله في الجامعة التونسية خاصة وفي سائر العالم العربي عامة: التأسيس لفكر عملي يقطع مع السائد ويفتح الأفق نحو عالم أو ربما عوالم أرحب. وإن كان العرب لغة وشعرا وتاريخا وحضارة أهل أدب، فعليهم اليوم، أي سنة 2025، خلال الموجة الجديدة لفايروس كورونا وعدوان حتمي على أرض فلسطين وكافة أقطار العالم العربي، أن يصيروا أهل علم.

البداية من هنا: يجب أن تصير دراسة الأدب دراسة علمية ويجب على طلاب الآداب العربية أن يدرسوا لغتهم وآدابهم وحضارتهم وفق قواعد أساسية تنبني على مصطلحات قويمة ومعايير صلبة وأنظمة وأنساق متماسكة. وهذا ما عبر عنه بول فاليري أول شاعر وأديب يدخل الكولاج دو فرانس ليشرف على كرسي الشعرية من سنة 1937 إلى تاريخ وفاته سنة 1945، وذلك لينظر إلى الشعر بعين تحليلية علمية لا تلقينية تكريرية قاتلة “يجب أن يسمّى علْما فقط مجموعة الوصفات التي تنْجح دائما. كل ما تبقى أدب.”

وهذا ما أهداه إلينا المرحوم الدكتور عبدالعزيز شبيل قبل رحيله الأخير من خلال “معجم المصطلحات الأدبية والبلاغية واللسانية باللغتين العربية والفرنسية”: علْم ينْهض بالأدب.

كما كان لترجمات شبيل الأثر الكبير في البحث العلمي والنقد الأدبي، مثل ترجمته لـ”نظرية الأجناس الأدبية” وغيره من البحوث التي قدمها كبار النقاد العالميين. كان يترجم وفق اختياره الخاص ووعيه بأهمية ما يترجم، وهذا ما جعل منه نافذة مشرعة على آخر إنجازات النقد الأدبي.

برحيل عبدالعزيز شبيل فقدنا أستاذنا وصديقنا الذي منحنا قوته وجأشه في البحث والتمحيص والكتابة والتدريس.

 

9