المثقفون العرب يرفعون كتابا إلى روح فاطمة المرنيسي

ترفع المثقفات العربيات أفكارهن الحداثية النسوية اليوم في وجه التغوّل الذكوري الذي تحيطهن مجتمعاتهن به، لكن يبقى الإشكال الأبرز هو مدى تشبع المثقفات والكاتبات العربيات بتراثهن الذي ينقدنه في أعمالهن، إذ يبقى التشبع بالتراث هو الباب الأبرز والأمثل لنقده. وهذا ما فعلته المفكرة والكاتبة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي التي أسست لمنهج فكري مغاير في نقد التراث، لتكون أيقونة الفكر النسوي العربي، وهو ما دعا مثقفين عربا للاشتراك في تأليف كتاب حول هذه المفكرة التي غادرت عالمنا أواخر العام المنقضي.
السبت 2016/02/06
امرأة سهرت على تلقين العالم يقظة النور

اتفق عدد من المثقفين العرب على استعادة تراث المفكرة وعالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي، وذلك بعدما ودعوها نهاية شهر نوفمبر الماضي، من خلال إصدار كتاب يحتفي بالراحلة. كتاب “شهرزاد المغربية” أصدره مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في البحرين، وهو من إعداد وتحرير الشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان. ويضم شهادات ودراسات عن الراحلة، وقد صدر في أربعينيتها، ليستعيد ذكراها وذاكرتها من جديد، وليؤكد أن المرنيسي أيقونة عصية على النسيان، منذورة للخلود.

بداية بلا نهاية

ما دام الحديث عن فاطمة المرنيسي، وما دام الخطاب حول المرأة، سيكون من اللائق أن ننطلق من الشهادات والدراسات التي قدمتها المثقفات العربيات في كتاب “شهرزاد المغربية”. وحين نطالع مساهمتهن في هذا الكتاب، تستوقفنا مسألة مثيرة، وهي أن مقالاتهن تكاد تتشابه. فقد التقت المثقفات العربيات حول سمة جامعة لفاطمة المرنيسي، وهي كونها “امرأة شجاعة”.

تعبّر الباحثة المغربية جميلة حسون في شهادتها “كنت أحب أكثر ما أحب في فاطمة شجاعتها”. أما الروائية الجزائرية ربيعة الجلطي، فتؤكد أن المرنيسي “تحتل مكانتها في الصفوف الأولى كباحثة تطرح بشجاعة وبعمق الأسئلة المزعجة والمؤجلة دوما، والمحرضة دوما”. وهذا ما تردده، أيضا، الشاعرة العراقية بلقيس حسن من أن فاطمة المرنيسي “بكل ما كتبته، وبشجاعة، كانت تزيح قشرة التخلف التي لفّت ذلك التراث، خاصة بنظرته إلى المرأة، عبر رجال دين كانوا حملة فكر غير أمينين ولا حريصين على تطوير مجتمعاتنا”.

كاتبة ومفكرة، حمالة ثقافة تراثية عريقة وعميقة أحرجت الفقهاء، مثلما أحرجت أدعياء الحداثة، وأحرجت الغرب نفسه

وتتحدث الباحثة المغربية المتخصصة في تاريخ النساء عن الشجاعة باستحضار نقيضها، هو “الخوف”، حين تؤكد لنا في شهادتها أن هدف المرنيسي من كتاب “الحريم السياسي” لم يكن سوى “المساهمة في خلخلة اليقينيات بخصوص القوامة، التي تم تبريرها منذ ظهور الإسلام، باعتماد آيات قرآنية وأحاديث نبوية. فكان أن قامت المرنيسي، من داخل المرجعية الدينية، بتقديم قراءة تبين أن الخوف من وصول النساء واحتلالهن لمواقع ظلت حكرا على الرجال مرده الأساسي هو الرغبة في استمرار احتكار السلطة من طرف الرجال”.

تلويحات وداع

إن ما تبقى من فاطمة المرنيسي هو ما يجب أن ننجزه، وليس ما أنجزته. تلك هي وصية المفكر المغربي محمد عابد الجابري. واليوم، بعد رحيلها، ونهاية مشوارها في الحياة، وجب إعطاء انطلاقة جديدة للاهتمام بفاطمة المرنيسي، ومنحها بداية جديدة لا تنتهي هذه المرة، بداية بلا نهاية. ولعل هذا ما ألمح إليه الباحث المغربي فريد الزاهي، حين ختم مساهمته في هذا الكتاب الجماعي بالقول “إنني اعتقدت أنها امرأة خالدة، لن يطاولها الموت أبدا. وكاد الأمر أن يكون كذلك”.

والبحث عن استمرارية لفاطمة المرنيسي، وتخليد مشروعها النسوي التنويري، يقتضي العودة إلى منطلقات وبدايات فاطمة المرنيسي. لا تنحدر هذه العالمة والمثقفة المتحررة من ثقافة الحداثة والمعاصرة. وهي بخلاف النسويات العربيات، سليلة ثقافة تراثية متجذرة. فلقد درست فاطمة في جامعة القرويين بفاس، التي أسستها فاطمة الفهرية، خلال القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، لتكون أقدم جامعة في العالم. وفي فاس، خطّت فاطمة الحروف الأولى، واستظهرت القرآن على يد معلمة في دار الفقيهة، قبل أن تلتحق بالقرويين. من هنا، كانت فاطمة المرنيسي حمّالة ثقافة تراثية عريقة وعميقة، قبل أن تعتنق ثقافة حداثية حرة وطليقة، وهي أول مغربية تناقش أطروحتها الجامعية في الولايات المتحدة الأميركية. وبسبب هذه الثقافة التراثية، أحرجت الراحلة الفقهاء، مثلما أحرجت أدعياء الحداثة، وأحرجت الغرب نفسه، وخطابه الواثق من نفسه، بخصوص المرأة.

"شهرزاد المغربية" كتاب يقدم شهادات ودراسات عن فقيدة البحث النسوي

وإلى جانب ثقافتها التراثية الراسخة، ثمة حقائق أخرى عن بدايات فاطمة المرنيسي، بعيدا عن المغالطات والشائعات. ومنها أن أول كتاب لها ليس عن الحريم السياسي، الصادر سنة 1987، وإنما هو كتاب “المرأة في اللاوعي الإسلامي”، الصادر في فرنسا سنة 1982، باسم مستعار “فاطنة آيت الصباح”، ستصدر ترجمته العربية، بعد ثلاث سنوات، بتوقيع فاطمة المرنيسي، وبعنوان “الجنس والأيديولوجيا والإسلام”.

ومع خطاب البدايات، دائما، بصمت الراحلة على انطلاقة عدد من العناوين والمشاريع المؤسسة في تاريخ الحركة النسائية المغربية، ومن ذلك مساهمتها التأسيسية في إطلاق جريدة “8 مارس”، سنة 1983، ومشاركتها في تأسيس أولى الجمعيات النسائية المغربية سنة 1985، ويتعلق الأمر بالجمعية الديمقراطية لنساء المغرب، وكذلك تأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، سنة 1987، ثم تأسيس أول مركز للاستماع والإرشاد النفسي والقانوني للنساء ضحايا العنف، سنة 1995. ومن دراساتها الأكاديمية فأبحاثها الميدانية، ثمّ نصوصها السردية، إلى مهامها الإنسانية، يتحدث العالم اليوم عن مدرسة اسمها فاطمة المرنيسي، في تخصص المرأة وقضيتها وفلسفتها، مثلما تتحدث جامعات العالم عن توجه قائم بذاته، وهو “النسوية المرنيسية”.

في الفصل الثالث من هذا الكتاب الجماعي يودّع المثقفون العرب صديقتهم وحبيبتهم فاطمة. وقد جاءت نصوص هذا الفصل جريحة ودرامية، من هول الفاجعة وحجم الفقدان. أما الشاعر البحريني قاسم حداد، فيسمي الراحلة “صديقة الأمل”، وبلغته الشاعرة، دائما، يخبرنا حداد أنها “امرأة سهرت على تلقين العالم برمته يقظة النور، لئلا تأخذه سنة من النوم عن مستقبل حياتنا”. وبينما يستعيد الشاعر ذكريات سارة وحارة من زيارة القافلة المدنية التي نظمتها المرنيسي إلى اليمن سنة 2005، يدعونا إلى ضرورة أن تظل فاطمة المرنيسي صديقة أحلامنا، و”قنديل مستقبل المجتمع العربي”.

أما الروائية العراقية عالية ممدوح، فتعيد أمام أنظارنا تصوير مشاهد من لقائها الأول بالراحلة، في رحلة إلى أصيلة، قادتها إلى بيت التشكيلي المدهش فريد بلكاهية، ثم اللقاء بالظاهرة محمد شكري في طنجة. بينما يرى الكاتب اللبناني بيار أبي صعب أن الراحلة قد علمتنا أن نمعن النظر في ما وراء الحجاب، وهي العاشقة على طريقة ابن حزم الأندلسي، ووريثة قاسم أمين وشريكة محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبوزيد وسائر العقلانيين العرب.

الباحث التونسي الطاهر لبيب، وهو من جيل الراحلة، ومن السوسيولوجيين المغاربيين الأوائل، كان آخر من لوّح بوداعه في هذا الكتاب، وهو يتحدّث عن مثقفة غير عادية.

17