ممارسات بصرية خارج السياق في التشكيل المصري لـ2015

شهدت ساحة الفنون البصرية في مصر العديد من الأحداث والفعاليات الفنية في عام 2015، وهي أحداث تتميز بالتباين في نوعية الممارسات الفنية، فبينما استمر الاحتفاء بالأساليب والممارسات التقليدية داخل القاعات الخاصة ذات التوجه التجاري نزعت المساحات الفنية المستقلة إلى تقديم جرعة وافية من الممارسات الفنية المعاصرة.
الاثنين 2015/12/28
"قردة الحكمة" أبرز عروض 2015

على صعيد الأنشطة الرسمية التابعة لوزارة الثقافة المصرية تقلصت مساحة الأنشطة التشكيلية في عام 2015، نظرا لتوقف عدد من هذه الفعاليات الفنية لأسباب غير معلنة، كبينالي القاهرة على سبيل المثال، وهو واحد من أهم البيناليات الفنية في منطقة الشرق الأوسط.

ومع ذلك يظل صالون الشباب الحدث الأبرز على ساحة التشكيل المصـري الذي استطاع المحافظة على استمراريتـه على مدار ربع قرن. وتـأتي أهميـة صالون الشباب من كونه يعـد بحق انعكاسا لكل هذه التباينات والممارسات البصرية التي تزخر بها ساحة الفنون البصرية في مصر.

والمتابع لحركة التشكيل المصري خلال العقدين الأخيرين لا بدّ له أن يلحظ بوضوح تأثير هذا الحدث على الحركة التشكيلية المصرية وإسهامه في ضخّ دماء جديدة وفاعلة داخل حركة التشكيل المصري، فمنذ انطلاقته الأولى في خريف عام 1989 مثّل صالون الشباب حدثا جذابا ومفعما بالحيوية ومثير للجدل في آن. فبين مرحب به كمتنفس لإبداعات شباب الفنانين وممارساتهم المعاصرة، وبين معارض له ينظر بعين الريبة إلى كل عمل فني يتبني الممارسات المعاصرة.

في المقابل ظل صالون الشباب طوال هذه السنوات محتفظا باستمراريتـه وطبيعته العامة كحدث فني وثقـافي، يمكـن وصفـه بالاستثنائي داخل حركة التشكيـل المصرية رغم كل هذا الجدل المثار حوله.

الزوجان أورينوتاواشي قدما إلى القاهرة قبل ثلاثة أشهر للإقامة الفنية، واستطاعا خلالها الاقتراب من الثقافة والعادات المصرية

أما على صعيد المشاركات الدوليـة فقـد طغت المشاركة المصريـة في الدورة الـ56 لبينالي فينيسيا على اهتمام العـديـد من المتخصصين، نظرا لحالـة الجـدل التي رافقـت تلك المشاركة والتي جاءت تحت عنوان “هل نستطيع الرؤية”، وهو مشروع فني مشترك لثلاثة فنانين هم: أحمد عبدالفتاح وكمال الخشن وماهر داوود، إضافة إلى الفنان هاني الأشقر كقيّم على المشروع. ولم يحصد هذا العمل أيّ جوائز، ووصفه البعض بأنه أسوأ المشاركات المصرية في ذلك البينالي منذ إنشائه، لما خيّم عليه من مباشرة وتسطيح للتناول.

الممارسات المعاصرة

تبرز المساحات الثقافية المستقلة التي تتبنى الممارسات الفنية المعاصرة ببرنامجها المميز من العروض الفنية للفنانين المصريين والأجانب على حدّ سواء، ومن بين هذه العروض المميزة التي أقيمت هذا العام يأتي عرض الزوجان اليابانيان أورينوتاواشي في قاعة آرت اللوا.

اعتمد العرض على إمكانية تجاوز حاجز اللغة من أجل التواصل بين الثقافات المختلفة، من طريق لغة بصرية وإنسانية مشتركة قوامها الابتسام والحبّ والرغبة المتبادلة في التعرف على ثقافة الآخر.

جاء الزوجان اليابانيان أورينوتاواشي قبل ثلاثة أشهر إلى القاهرة للإقامة الفنية ضمن منحة تقدمها مساحة آرت اللوا للفنون، واستطاعا خلال تلك الفترة الاقتراب من الثقافة والعادات المصرية السائدة. وعرضت الأعمال التي أنجزاها خلال تلك الفترة تحت عنوان “دكان خلاط العيشة” وهي ترجمة بصرية لتجربة الحياة في مصر كما شعرا بها.

ومن بين المشاريع البصرية اللافتة هذا العام أيضا يأتي عمل الفنان المصري يوسف ليمود الذي أقيم في مركز الجزيرة للفنون بالقاهرة تحت عنوان “مقام الزوال”.

صلاح المر يعيش آخر طقوسه السودانية في القاهرة

في هذا العمل طرح الفنان يوسف ليمود معاييره الجمالية جانبا في مواجهة هذه العشوائية العبثية التي تحيط بنا دون تلطّف أو تهذيب. استخدم الفنان قطعا من الأخشاب المهملة مشكّلا بها ما يشبه البيوت أو أنقاضها، بيوت تحوي أطلالا لبشر وجمادات.

مئات القطع الخشبية الصغيرة وشرائح الورق المقوى، مفردات مهملة، لم يراع تهذيبها، تشكل قوام العمل. هو أيضا لم يبذل جهدا في جمع أو تثبيت هذه القطع الخشبية أو صونها من العبث والتداعي، يجمع القطع الخشبية وغيرها جنبا إلى جنب ليصنع الشكل أو الهيكل، حتى يكتمل ذلك التكوين النهائي المشكل من عشرات الهياكل والأشكال الخشبية.

تراوحت التكوينات بين الصغير والكبير الذي يشغل حيزا لا بأس به من مساحة القاعة، بينما غطيت الأرضية بالرمال، مع وجود مساحتين كبيرتين للرسم، شكل على سطحهما الفنان بمزيج من المساحيق والعجائن وأسندهما على جدار القاعة، بدت المساحات المرسومة أشبه بخارطة ما لمدينة أو صحراء قاحلة، أو كأنها مشهد من أعلى لتلك التشكيلات الهيكلية التي تركها ليمود وراءه منهكة في مواجهة الصمت والزوال.

ومن بين عروض مهرجان “وسط البلد” الذي أقيم في شهر أبريل من هذا العام برز العمل الجماعي الذي عرض تحت عنوان “خدع عظيمة من مستقبلكم”، ضم المعرض عرضين بصريين: الأول للثنائي الفني باسل عباس (فلسطين) وروان أبو رحمة، وهو فلسطيني مقيم بالولايات المتحدة، أما العرض الآخر فهو للمصري باسم مجدي.

وتضمن المهرجان أيضا أمسية شملت أحداثا وعروضا فنية للفنانين يوخن دين (ألمانيا)، وبنيامين سيرور (فرنسا)، وحفلا موسيقيا مشتركا لستينا جانفين موتلاند (النرويج) وسي سبنسرييه من الولايات المتحدة، وعــــــرض لفيلم قصير لبدوير وليامز (بريطانيا). وعلى صعيد العروض الجماعية يأتي المعرض الذي استضافته مؤسسة “درب” للفنون بالقاهرة تحت عنوان “قردة الحكمة” واحدا من بين أبرز هذه العروض الجماعية، والتي تبنتها واحدة من أبرز المساحات الفنية المستقلة في مصر، وهي مؤسسة “استوديو خانة” للفنون البصرية، حيث ضم المعرض أعمالا متنوعة لمجموعة من شباب الفنانين المصريين. تنوّعت الأعمال المعروضة بين عدة وسائط فنية، منها الفيديو، والتجهيز، والفوتوغرافيا، والصوت.

وعبّر المشاركون في هذا المعرض عن رؤيتهم للواقع المحيط، وشغفهم الشديد للمعرفة، ويعد المعرض مبادرة منهم للتفاعل مع الجمهور، ومحاولة “للفت الانتباه إلى ما يعتري العديد من قناعاتنا وأفكارنا من غموض والتباس″، حسب ما جاء في الكلمة المصاحبة للعرض.

"المنظومة" هي العنوان الذي اختاره الفنان المصري كمال الفقي لمعرضه، هي منظومة المال والسلطة التي ندور في فلكها

تعرضت أعمال الفنانين المشاركين في هذا المعرض إلى الكثير من القضايا الشائكة التي نتعامل معها كنوع من المسلّمات التي لا يجوز الاقتراب منها، مستسلمين لقناعات وفرضيات واهية وملتبسة لمجرد شيوعها أو تداولها.

ويتخذ المعرض من قردة الحكمة الصينية الشهيرة ثيمة له، وكإطار عام لمضمون الأعمال التي تناقش فكرة الإدراك كأمر نسبي. يمثل المعرض خطوة جادة لخلق تواصل بين الأجيال وإتاحة الفرصة للتجارب الطموحة للعرض والنقاش حول مقوّمات العمل البصري والممارسات الفنية المعاصرة، وهو ما يضع تلك التجارب الناشئة تحت مجهر البحث والاكتشاف والمتابعة.

خدش الفراغ

كان للأعمال النحتية نصيب أيضا في جملة العروض الفنية لهذا العام في مصر، وبرز من بينها عدد من التجارب الجديدة والخلاقة، والتي تميزت بالقدرة على تجاوز الصياغات التقليدية، ومن بين هذه التجارب على سبيل المثال تجربة الفنان كمال الفقي، وهو من مواليد عام 1984، والتي عرض جانبا منها في قاعة الزمالك للفنون بالقاهرة تحت عنوان “المنظومة” وهو استمرار لأسلوبه في صياغة الأجساد المكتنزة.

ومع ذلك بدا الفقي في معرضه الأخير أميل هذه المرة إلى استكشاف الفروق الفردية فيما بينها. وزّع الفنان عناصره النحتية ذات الهيئة العملاقة على فضاء الغاليري فتصادف بهيئتها تلك بعض أوهامنا عن أنفسنا، فقد تتضخم ذواتنا إلى هذا الحد الذي نظن معه أننا قادرون على الفعل، أو متحكمون بأقدارنا. ومع ذلك نكتشف في النهاية أننا مجرد أدوات صغيرة في منظومة.
“المنظومة” هو العنوان الذي اختاره الفنان لمعرضه، هي منظومة المال والسلطة التي ندور في فلكها. ينطلق الفنان هنا من إشكالية يعبّر عنها ذلك السؤال: ما الدور الذي نؤديه نحن في تلك المنظومة؟ ثم يجيب هو على التساؤل عبر الكلمات التي قدم بها معرضه “ترس عديم الأهمية أنت وآباؤك وأجدادك، تدورون في ملكوت هذه الآلة الضخمة، لتضخ المال والمادة والسلطة لصاحب القوة. كل بدوره ومرتبته، كل بقدرته في الهرم الرأسمالي النقدي.
المتتبع لأعمال الفنان عمرو هيبة يستطيع أن يلمح هذا التراكم من خلال التطور الفني والأسلوبي في أعماله

وستظل كذلك شأنك شأن من سبقوك. قد تضجر من صاحب السلطة، وتثور ضده، إلاّ أنه هو أيضا ترس عديم الأهمية في هذه الآلة الضخمة، وفي رحلة عبثية شاقة، يتحول فيها الإنسان إلى سجين لرغباته الاستهلاكية، عديمة الأهمية، داخل منظومة إسمنتية تعزز فينا الفردية والانعزال والتنافس الوهمي”.

ومن استلهام الجسد البشري في أعمال الفنان كمال الفقي إلى استلهام مكونات الطبيعة بعناصرها المختلفة في أعمال الفنان الشاب محمد عبدالله، والذي يستلهم أشكاله النحتية من الطبيعة مباشرة دون مقدمات مفاهيمية مفرطة، متخذا من عالم الحشرات مثيرا بصريا ومحورا تدور حوله تلك الأعمال التي عرضها في قاعة مشربية للفنون بالقاهرة تحت عنوان “حياة موازية”.

نظرة واحدة على الأعمال المعروضة كافية كي تدرك أنك أمام بدايات تجربة شائقة ومتفردة في مجال النحت، فلا تستطيع أن تبعد عن مخيلتك تلك المسارات المدهشة التي يمكن أن تنطلق نحوها هذه التجربة، فالفكرة بما تحتويه من تفاصيل ومعالجات بصرية للأشكال جديرة بالتطور والبناء عليها على نحو يحمل صياغات لا حصر لها من البناء والتوظيف الشكلي للمجسمات المعدنية.

هذه المجسّمات التي تبدو ككائنات مهولة محكمة التكوين في اتساق كتلتها مع الفراغ المحيط بها، والرؤية المتكاملة من جميع الزوايا، وقدرة الشكل على إحداث هذه الصدمة البصرية والدهشة الأولى.

لك أن تتخيل على سبيل المثال أحد هذه الكائنات المعدنية وسط ميدان فسيح لمدينة ما، يبدو المشهد ملهما إلى حد بعيد، فكم يحتاج فراغ مدننا إلى مثل هذه الصياغات الملهمة للمخيلة، بعيدا عن التماثيل الميدانية التقليدية؟ أو حتى الصياغات المجردة التي تنتحل الموروث على نحو مخلّ؟

كمال الفقي تجربة نحتية بأنامل مصرية

حياة موازية هي تجربة الفنان الأولى في العرض الفردي، وهي خطوة تحمل الكثير من جوانب الثراء والنقاط المضيئة من حيث التوظيف الجيد للخطوط والمساحات الهندسية والعلاقات المتنوعة بين الكتلة والفراغ المحيط بها. وهي المرة الأولى التي يخوض فيها الفنان تجربته في التشكيل بالمعدن.

خارج السياق

شهد موسم العروض الفني المصري كذلك العديد من تجارب التصوير اللافتة، ومن بين هذه التجارب المميزة تأتي تجربة الفنان المصري عمرو هيبة، والتي عرضها في قاعة “مشربية للفنون” بالقاهرة تحت عنوان “أحلام سعيدة”.

وتتميز تجربة الفنان عمرو هيبة بحس تراكمي يتبدّى في طريقة بنائه للمساحات. والمتتبع لأعمال الفنان يستطيع أن يلمح هذا التراكم من خلال التطور الفني والأسلوبي في أعماله، فهو تطور لا ينفي ما سبقه، بل يتمّ البناء عليه على نحو تراكمي، كما لا ينطوي على طفرات أو تحوّلات مفاجئة، وهو نفس الأسلوب الذي يتبعه في عملية الصياغة وبناء اللوحة. اللوحة لدى عمرو هيبة هي نتاج تراكم لطبقات فوق بعضها من اللون والعناصر والمفردات والخطوط، هو يرسم ثم يهدم ما بدأه، ليعيد البناء من جديد، يبدّل بين تراكيب العناصر دون اللجوء للحذف.

وهكذا يستمر تفاعله مع المساحة في آلية ديناميكية لا تتوقف، فتبدو اللوحة كما لو أنها ساحة لمعركة محتدمة ما بين فراغات ومستويات عدة من ناحية، وبين اللون والعناصر والمفردات المرسومة من ناحية أخرى.

بين المساحات الملونة المسكوبة على مساحة الرسم، وبين تلك الخطوط المحددة للأشكال المرسومة، هذه الأشكال التي تبدو كما لو أنها تأبى الخضوع لتلك الآلية من العمل التي يتّبعها الفنان، فتظهر الطبقات بعضها فوق بعض، وتشفّ الدرجات الصريحة من اللون عمّا تحتها من عوالم وفضاءات غير محدودة.

يمكنك أن تلمح فيما بينها سحبا رمادية، وآفاقا ممتدة، ودياجير أرجوانية تظهر وتختفي، ومساحات شاسعة يتباهى بينها الأحمر بسطوته وعنفوانه وحضوره الملتهب، لكنه ما يلبث أن يتوارى أمام سطوة الأسود الصريح، فتراوح الأعمال بين علامات وإشارات القسوة والسكون والقتامة.

نظرة واحدة على الأعمال المعروضة كافية كي تدرك أنك أمام بدايات تجربة شائقة ومتفردة في مجال النحت
ومن بين معارض التصوير الهامة التي أقيمت هذا العام أيضا معرض الفنان السوداني صلاح المر والذي أقيم كذلك في قاعة مشربية تحت عنوان “آخر الطقوس المحلية”.

والفنان صلاح المر هو أحد الفنانين السودانيين المعروفين باستلهامهم للموروث والثقافة السودانية في أعمالهم، إذ تحتل الثقافة السودانية دورا محوريا في تجربته، فالتباين الجغرافي بين أقاليم السودان المختلفة وتعدد القبائل التي تشكل النسيج العام للمجتمع هناك هي أمور من شأنها أن تخلق مناخا ثقافيا متنوعا وغنيا.

كل قبيلة في السودان لها عاداتها وتقاليدها، وهي تتمايز عن بعضها في اللغة والملبس والموسيقى والغناء وغيرها من المعطيات الثقافية الأخرى. يمثل هذا التنوع الثقافي ميزة على درجة كبيرة من الأهمية يتمتع بها المجتمع السوداني عن غيره من المجتمعات الأخرى.

ومن هذه الذخيرة والرؤية البصرية المتنوعة التي تتميز بها هذه الثقافة يستقي الفنان السوداني صلاح المر مفرداته وعناصره، فوجوه الأهل والأصدقاء، والأغاني والأهازيج، ومشهد الحقول والنهر، وحميمية العلاقات، تشكل جميعها صورة مكتملة للوطن كما ينطبع في ذاكرته البصرية.

وتأتي أهمية هذه التجربة من تبنّيها لصياغات جديدة ومبتكرة على ذائقة المتلقّي المصري، بداية من درجات اللون المستخدمة، وطريقته في بناء اللوحة التي تشبه إلى حد كبير أجواء أستوديوهات التصوير الفوتوغرافي.

16