عمرو هيبة يقتنص اللحظة ويرسمها بتوتر صاخب

يتبدّى الحس التراكمي عند الفنان المصري عمرو هيبة في طريقة بنائه للوحة كعمل فني منفرد، والمتتبع لأعمال الفنان يستطيع أن يلمح هذا التراكم من خلال التطور الفني والأسلوبي في أعماله.
فهو تطور لا ينفي ما سبقه، بل يتم البناء عليه على نحو تراكمي، كما لا ينطوي على طفرات أو تحولات مفاجئة، وهو نفس الأسلوب الذي يتبعه في عملية الصياغة وبناء اللوحة. فاللوحة لديه هي نتاج تراكم لطبقات فوق بعضها من اللون والعناصر والمفردات والخطوط.
معركة محتدمة
إنه يرسم ثم يهدم ما بدأه، ليعيد البناء من جديد، يبدل تراكيب العناصر دون اللجوء إلى الحذف، وهكذا يستمر تفاعله مع المساحة في آلية دينامكية لا تتوقف، فتبدو اللوحة كما لو أنها ساحة لمعركة محتدمة بين فراغات ومستويات عدة من ناحية، وبين اللون والعناصر والمفردات المرسومة من ناحية أخرى…
بين المساحات الملونة المسكوبة على مساحة الرسم، وبين تلك الخطوط المحددة للأشكال المرسومة، هذه الأشكال التي تبدو كما لو أنها تأبى الخضوع لتلك الآلية من العمل التي يتبعها الفنان، فتظهر الطبقات بعضها فوق بعض، وتشف الدرجات الصريحة من اللون عما تحتها من عوالم وفضاءات غير محدودة.
يمكنك أن تلمح في ما بينها سحبا رمادية، وآفاقا ممتدة، ودياجير أرجوانية تظهر وتختفي، ومساحات شاسعة يتباهى فيها الأحمر بسطوته وعنفوانه وحضوره الملتهب، لكنه لا يلبث أن يتوارى أمام سطوة الأسود الصريح، فتراوح الأعمال بين علامات وإشارات القسوة والسكون والقتامة.
في أعمال عمرو هيبة تتداخل تفاصيل وأجزاء من لوحات مكتملة، لتشكل معا بناء جديدا، قد يبدو متناقضا وفوضويا، لكنه في أغلب الأحيان يحمل تناغما من نوع خاص، هو تناغم قابل للتفكيك وإعادة الصياغة من جديد، ففي تجربة هيبة التصويرية لا تكتمل اللوحة أبدا، فبإمكانه الإزالة والبناء من جديد في كل مرة يقف فيها أمام العمل.
وتمثل مجموعته الأخيرة التي عرضها تحت عنوان أحلام سعيدة ذروة التجربة الفنية لديه، هذه التجربة التي بدأها بدراسة الغرافيك في ألمانيا، وولعه برسم الشخوص، حينها كانت اختياراته اللونية تتميز بالحدة، ثم بدأت تلك الحدة اللونية تتسلل شيئا فشيئا إلى الخطوط المكونة للعناصر، وإلى المساحات.
وتطورت المعالجة الفنية لديه من التناول شبه المباشر لهؤلاء الأشخاص القريبين على ما يبدو من دائرة اهتمامه إلى نوع من التحريف، أكسب الملامح والتكوين شكلا دراميا في تفاعله مع الألوان الحادة التي غلبت على الأعمال.
بدا عمرو هيبة مولعا كذلك برسم المحيط الخاص به من أشخاص ومفردات وعناصر حميمية تشاركه الوجود في الحيز المكاني المحدود داخل محترفه، من حامل الرسم وأدواته إلى متعلقاته الشخصية.
قناص اللحظة
تظهر الدمى في مجموعات كثيرة من أعماله، وهي عادة ما تكون مشوهة، مبتورة الأطراف، أو معطوبة الوجه على نحو ما. وبقدر ما لهذه الدمى من رمزية، وبقدر ما تحمله أيضا من مسحة إنسانية ذات مغزى، إلاّ أن هيبة ينفي هذه الرمزية عن أعماله، فهو لا يتعمد تقديم رسالة ما، ولا يحاول الإمعان في الحكي، هو فقط يحاول اقتناص تلك اللحظة التي تمثل ذروة توحده مع ذلك العالم الصغير الذي يحيط به.
في أعماله السابقة كان الفنان يراوح ما بين المباشرة والمعالجة العفوية لعناصر العمل، مستغرقا في حالة من الجدل تصل أحيانا إلى درجة الصراع، وتضفي على اللوحة مسحة درامية شديدة القسوة في كثير من الأحيان.
ومع ذلك ما لبث أن صار أكثر تجريدا للشكل والأشخاص، وإن استمرت القوة الدافعة في ضربات الفرشاة السريعة والطبقات التراكمية من اللون وغيرها من العناصر. تراجعت الشخوص على حساب العناصر الأخرى، صارت اللوحة غارقة في الانفعالات العارمة، واختفت الملامح والتفاصيل في مقابل الاحتفاء باللون والمعالجة الحرة للمساحة والتقاطعات الخطية والعلامات والأحرف اللاتينية والأطياف الشبحية للبشر في خلفية المشهد.
في أعمال هيبة يتنحى المعنى والمفهوم من الواجهة، ليتيح براحا مناسبا للمعالجة والمهارة في التعامل مع مفردات الرسم، وهو يرى أن ذلك الأمر كفيل بمنحه بعض السكينة وسط فوضى الأحداث من حوله، فالطاقة التي يستنفدها في صراعه مع العمل، كما يقول، هي علاجه الوحيد من كل هذا. لذا فهو يترك نفسه على سجيتها في تعامله مع تلك المساحة المهولة في قدرتها على اختصار العالم من حوله، هو يرسم ويزيل، يخطط المساحات، ثم ينثر العناصر على سطح العمل إلى جوار بعضها البعض، وما إن يكتمل البناء حتى يعاود هدمه من جديد، لينشئ آخر على أنقاضه التي لا تزال آثارها باقية في الخلفية تنبئ بوجودها على مسطح العمل.