الكتابة المستعارة
كلنا يعلم ظاهرة الكتابة بأسماء مستعارة، وهي التخفي خلف اسم غير حقيقي للكاتب، وتكون أسبابه مختلفة إما لإعطاء هامش من الحرية للكاتب للتحدث في موضوع ما، أو هروبا من النقد وغيره من الأسباب المتعددة التي يخير فيها الكاتب الاختفاء وراء اسم يصنعه هو لنفسه. ظاهرة الأسماء المستعارة تثير ردودا متباينة بين رافض وقابل لها، حسب المسوغ الذي يتكئ عليه الكاتب صاحب الاسم المستعار. لكن من اللافت أن بعض الكتاب تجاوزوا مسألة استعارة اسم إلى استعارة كتابة بطم طميمها.
تدعو ظاهرة الكتابة المستعارة إلى التفكر العاجل في أدبنا العربي اليوم، فإن توفرت إمكانات النشر وتعددت المنابر الأدبية بتفاوتها القيمي، إضافة إلى تنازل النقد العربي عن دوره في مواكبة ما يُكتب اليوم، كل هذا ساهم في خلط معياري عجيب.
لكن لنتطرق إلى النقطة التي نسعى إلى إثارتها ألا وهي الكتابة المستعارة، التي من جملة مولداتها ما ذكرنا، لكنها ظاهرة أعمق من الانحصار في الحقل الأدبي ضاربة في العمق الحضاري. فالظاهرة أن يستعير كاتب ما أسلوب كاتب آخر، وقد تتجاوز استعارة الأسلوب إلى استعارة الروح والتراكيب وحتى المواضيع مع تغيير طفيف، فيغدو بذلك الكاتب المستعير مجرد محرر ومزوق كلام لما كتبه الكاتب المُستعار منه.
لا أحد ينكر فضل الأدب المترجم في خلق إمكانات فكرية ولغوية جديدة للأدب العربي، لكنه فرض قسرا على الجملة العربية أنماطا أخرى فيها ما هو مستحب وفيها ما يغدو مجرد تركيبات مشوّهة، كأن تغدو الجملة العربية اسمية بالضرورة في بعض قصائد الشباب، ثم إن الكتابة المستعارة تجاوزت الظاهر اللغوي الذي يبدو عاديا بل ومطلوبا أن نضع لغتنا العربية اليوم في محك التجريب والصقل ودفعها إلى أقصى التجريب مهما كانت النتائج، أما المهم في مسألة استعارة الكتابة ليس ذاك اللغوي بقدر أهمية الاستعارات الفكرية والحضارية من الغير.
نعم نحن مع تلاقح الحضارات والأفكار والتواصل والتراكم، لكن الإشكال يكمن في أن تغدو الثقافة مستوردة وموضوعة كما هي في نصوص أدبية عربية، فتكون النصوص مثقلة بأفكار ورموز وتمثلات غير مهضومة بعد، وبعيدة عن الراهن المكاني والزماني والفعلي للكاتب والقارئ، بل هذه النصوص العربية منبهرة بالوارد، فنجدها تستعير حتى بيئته ومكانه وزمانه وتاريخه، فنجد مثلا من يتحدث عن رموز وبيئة وتاريخ وجماليات إلخ… بينما هو يعيش بيئة مغايرة مع قارئ مغاير، هذا يؤدي ضرورة إلى قطيعة بين الكاتب وقرائه، من جهة، أو إلى صبغ القراء بأن يكونوا قراء مستعارين بدورهم.
يدفعنا هذا إلى التساؤل عن مدى نجاعة هذا الأدب في بيئته الخاصة ومدى فعله القيمي أو الأخلاقي أو الفكري، فيكون بذلك المنجز الأدبي مجرد منجز فردي لذات منقطعة عن بيئتها مستوردة وجودها من خارج تاريخها ومحيطها، ما يؤدي كما أسلفنا إلى تمزق العلاقة بين الكاتب وقارئه، وبين الأدب وواقعه أو بيئته وحتى لغته بما تمثله من معطى حضاري وثقافي.
في شق آخر من الكتابة المستعارة هناك كتاب يستعيرون كتابات غيرهم سعيا إلى تحقيق النجاعة التي يرونها غائبة عن منجز بيئتهم الأدبية، فيهم من يكتب نصوصا أو كتابات جيدة وتتسم بالجدة، لكنه يظل في النهاية مجرد مردد لما كتبه غيره في ثقافة وبيئة أخرى، فتكون بذلك النجاعة الأدبية التي قد يحققها مزيفة وخاوية كأنها نبتة دون جذور تذوي سريعا في مزهرية منمقة.
إن الكتابة المستعارة بما فيها من استعارة اللغة والتاريخ والفكر والأسلوب إلخ… ظاهرة تكاد تكون منتشرة بشكل واسع بين كتاب الأدب العربي اليوم، سواء في الرواية العربية، التي لم تجد لها بصمتها بعد، وظلت رهينة التقليد لما هو وارد من السرد أو النثر، أو في ما يكتبون من قصائد النثر، رغم الإمكانات التي تمنحها هذه القصيدة بما هي مستقبل للشعر العربي. لذلك يجب النظر إلى هذه القضية بجدية تامة وبعين النقد والتفكر حتى من قبل الكتاب أنفسهم، بهدف محاولة التأصيل لأدب عربي حديث وخاص ومغاير.