تفجير سجن تدمر ومأساة انتصار الرواية
لم نكن نمتلك عن سجن تدمر إلا الروايات الممنوعة أو القصص التي يتبادلها سرا المعتقلون المفرج عنهم من هناك، كان سجن تدمر لحين أيام قليلة فقط أقرب إلى لغز، أو مملكة من العذاب لا يمكن زيارتها. الحكايات والروايات المتناقلة عن السجن مخيفة ودموية، إلا أنه ولحين بضعة أيام، إثر تسرب أول الصور من داخل السجن قبل قصفه تغير منطق النظر إليه، النظام حوله إلى رمز للترهيب كحال سجن الباستيل. الاختلاف أن الباستيل زال بأيدي الثوار، أي أن التخلص من تاريخ القمع المرتبط بهذا الرمز قام على أيدي الثوار، أما في حالة سجن تدمر، فإن تدميره تم بواسطة الطرفين الأشد فتكا في مواجهة الثورة السورية، أي تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري.
تحول السجن بعد تدميره إلى أطلال شعرية، خصوصا مع اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية لتدمر، الآثار تمحى تباعا، سواء تلك المرتبطة بالتراث الإنساني أو تلك المرتبطة بتاريخ القمع، وكأننا أمام اتفاق ضمني بين الطرفين على مسح ما هو سابق، للتأسيس لتاريخ جديد.
رغم السعادة التي عبّر عنها البعض بتدمير السجن إلا أن السؤال يبقى معلقا، ألا يجب أن يترك السجن كشاهد على تاريخ الموت والقتل؟ كان لا بد من فتح ملفات سجن تدمر، ولا بد من الإبقاء عليه لجعل المأساة علنية، ونزع الصيغة الأسطورية منها ليتم تجاوز الرعب الذي زرعته، الآن وبعد تدميره لم يبق منه سوى روايات الخوف، البعض رأى في هذا التدمير أبعادا سياسية قام بها النظام لطمس جرائمه، إلى جانب رغبة تنظيم الدولة الإسلامية في حماية نفسه بسب موقع السجن المكشوف للنظام.
سجن تدمر الآن أصبح جزءا من الصحراء، لا ذاكرة لوجوده إلا في قصص من عاشوه سواء معتقلين أو سجّانين، النهاية الغرائبية لهذا السجن حولته إلى أسطورة، لكن بالنسبة لمن؟
تنظيم الدولة قام بحرمان الشعب السوري من التطهير والوقوف أمام صرح المأساة وجعل روايات كتبها سوريون عاشوا السجن تتحول إلى وثائق تاريخية عن سجن تدمر، انتصار الرواية على حساب فضح المأساة، يجعل الخسارة أكبر، الرواية منتج فني في النهاية، السجن كوجود مادي هو ذاكرة مكان لا بد من التعمق في تفكيكيها، لكنها الآن أصبحت خاضعة لجماليات السرد الأدبي.
البعض تناول تدمير السجن بسخرية أقرب للتفاهة، الصور الأولى التي سُربت برغم ما تحويه من قسوة حولها البعض إلى أسلوب للسخرية من المأساة، بارودي تحاكم أسطورة سجن تدمر، إذ قام أحدهم بوضع صورة لبراد بيبسي، وأضاف طاولة وكؤوس نبيذ في مرة أخرى، لم تمتلك تجربة الانعتاق من أسطورة (سجن تدمر) الوقت الكافي لتدخل في مرحلة التطهير، بل تجاوزتها إلى المحاكاة الساخرة فورا.
سجن تدمر الآن خرج من سيرورة الفعل التاريخي للثورة كمحطة هامة للتطهير من العذابات، وتحول إلى أسطورة من جهة، وإلى بنية فنية لا يمكن التعرف عليها إلا من السرد، ومن الحكاية من جهة أخرى.
التواطؤ ولو كان دون تنسيق بين تنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري لتدمير السجن هو تشكيك بتاريخية هاتين البنيتين في وجه بنية الثورة، هل سيبقى من تنظيم الدولة والنظام السوري ما يكفي لتجاوزهما اجتماعيا وفكريا في سوريا الجديدة؟ أم أن كليهما يمحوان تاريخيهما بأنفسهما وكأنهما لم يوجدا أبدا، لنقف أمام فجوة تاريخية لوقائع لم يبق منها على أرض الواقع إلا خطابها ومجموع النصوص والصور والأعمال التي تكون هذا الخطاب، وهذا السؤال موجه أيضا إلى بنية الثورة نفسها وخطابها.
كِلا التساؤلين يصبان في سبيل نزع الصيغة الأسطورية المقدسة عن المسّ، والإبقاء على الرؤية الواقعية المتغيرة، بحيث تكون مرجعية تفكيك مكونات هذه البنى ومحاكمتها سلبا أو إيجابا قائمة على أساس واقعي لا على مرجعية الخطاب.
كاتب سوري