بدر شاكر السياب: التتويج والتهميش

الأربعاء 2014/12/24
تمثال السياب على شط العرب وحزمة من التساؤلات

ينتمي مفهوم كتابة المذكرات عموما إلى رمزية الحياكة، التي تمثل عمل الذاكرة في توقها إلى ملء فجوة في السرد تنشأ هنا، أو أخرى تنشأ هناك. وبهذا المعنى أصف كتاب الشاعر عبد اللطيف إطيمش، كاتب هذه الذكريات الممتعة*، بأنه نتاج حائك ماهر ينسج مادته على نولين: نول السيرة الذاتية الذي يتعقب خيوط شبكة مواكبته لأحدات موثقة ذات محمول ثقافي ومعرفي وسياسي من خلال علاقته الشخصية بأدباء عراقيين وعرب معاصرين، ونول السيرة الذي يتبع خيوط موضوعه المكرّس لرصد حياة الشاعر الكبير بدر شاكر السياب (1926-1964) ليس في أيامه الأخيرة فحسب بل في مرحلة أبكر من ذلك بكثير.

والحال أن التداخل الشديد بين هاتين السرديتين يعكس بعضا من جوانب عناصر الحداثة التي تمثلها الشعرية العربية. إلا أن الهدف واحد من تأليف الكتاب، فهو لا يرمي في تقديري إلى استعادة الدور الريادي الذي لعبه السياب، بقدر ما يسعى من خلال سرد متدفق وممتع وآسِر إلى استرجاع نسيج التفاصيل والنمنمات، التي رسمت سيرورة حياته الخاصة.

وعملية الاسترجاع هذه موثقة من قبل المؤلف إلى حدّ مبالغ فيه أحيانا. إلا أن ذلك ربّما يعود إلى طابع هذا النسيج الخلافي المثير للجدل، والذي اتسم خلال عملية حياكته بالتداخل المضلل أحيانا بين الفني والسياسي، بل افتراس السياسي غير المعلل للفني الذي ينتظر التعليل.

فلا شك أن علاقة السياب بالحزب الشيوعي العراقي، التي تحوّلت من حميمية الانتماء إلى المجابهة والعداء، أبرزت قدرة جهاز الحزب على صنع شهرة الشاعر وتدميرها في آن. ونظرا لأن هذه القدرة غير مشفوعة بتعليل فكري نقدي، فقد صار البوق والبيان المشبع بالسوقية السياسية هما القوة الإجرائية التي سعت إلى طمس تاريخ الشعر العربي الحديث، وإرجاع الظواهر المعبرة عنه إلى غير أصولها الحقيقية، متجاوزة على حدّ تعبير سلمى خضراء الجيوسي أهمية الإنجازات الحداثية، التي تمّت بمعزل عن البيانات الدعائية: “بصمت أرستقراطي متعفف عن الادّعاء”.

آية ذلك كله، ليس إنكار الدور الذي لعبته السياسة في بلورة الحداثة العربية رغم ضآلة هذا الدور، بل التأكيد على أن الحداثة ليست بالعملية ذات البداية الواضحة التي تحيل الموضوع إلى مباراة بين متسابقين، كما يوحي الجدل الدائر حول ما إذا كان قصب السبق قد أحرزه السياب أم نازك الملائكة.

اعتبار قصيدة معينة مؤشرا للريادة الشعرية لم يعد في القرن الحادي والعشرين مؤشرا نقديا مقنعا

وبعبارة أخرى فإن اعتبار قصيدة معينة مؤشرا للريادة الشعرية لم يعد في القرن الحادي والعشرين مؤشرا نقديا مقنعا. بل إن احتلال عضوية الشاعر للحزب موقعا مؤثرا في تحديد أهليته للريادة، كما تبين القراءة المدققة لهذا الكتاب، لا يمكن أن ينجح في آخر المطاف بطمس إخفاق مؤسستين شموليتين (توتاليتاريتين)، هما المؤسسة الحزبية والمؤسسة الحكومية في صنع الشاعر وتسويقه أو تهميشه وتدميره.

هذا الحكم لم يكن على هذا القدر من الوضوح قبل عقود. فالثورة التي كانت معادية للغرب غيّرت على حدّ تعبير المؤلف، طبيعة المسار السياسي في العراق، وهذا أدّى بدوره إلى تغيير حياة الناس وطبيعة تفكير الفرد العراقي، بعد أن “أتيحت له فرصة المشاركة في الحياة السياسية عبر المنظمات والأحزاب والجمعيات الشعبية والمدنية التي وفرها النظام الجديد”.

هذه الصورة كما تبدو لنا نحن العرب المتابعين لمحاكمات المهداوي ذائعة الصيت آنذاك، صورة غير مقنعة. فتقديم برنامج إذاعي حول ديوان السياب “أزهار ذابلة” تحت مظلة النظام الجديد، لا يمكن أن ينفي واقعة تعرضه للتهميش والتهشيم آنذاك، بل إن الالتفاتة الصغيرة نسبيا، على حدّ تعبير كاتب المذكرات، لم تحدث إلا بفضل ليبرالية مدير الإذاعة وصداقته لعبدالكريم قاسم. وهذا يؤكد أن النظام الجديد كان شموليا يملك فيه الحاكم العسكري البلاد والعباد.

"أزهار ذابلة" للسياب

واللافت أننا لو تفحصنا دور الحزب الشيوعي العراقي في صناعة الشهرة أو تدميرها، لوجدنا أن هذا الدور لا علاقة وثيقة له بمواقف الشعراء والروائيين والفنانين من مذهب الواقعية الاشتراكية، المسطرة النقدية التي كان يقيس بها أدب تلك الفترة نقاد ماركسيون بارزون كمحمود أمين العالم وحسين مروة.

وأحد الأمثلة على ذلك، السياب المنفتح على تجارب إليوت وإيديث ستويل، وبلند الحيدري الوجودي صاحب “خفقة الطين”. فكأن عضوية الحزب هنا وهناك كانت وحدها فصل المقال إن في التتويج أو في التهميش.

هذه المفارقة لم تطرح للنقاش من قبل الباحثين حتى الآن، لأسباب أجهلها. أو ربما لأسباب تتجاوز احتمال توفر قدر من الليبرالية أو المرونة في حزب لا ينقصه العنف ولا العنفوان.

وأخيرا يحسن بي أن أعترف أن الهاجس الملح الذي تملكني لدى مطالعة هذه السردية البديعة، البالغة السلاسة والرهافة والمثيرة للحزن والمتعة في آن، يمكن اختصاره بالقول أنه هاجس من شاهد شريطا سينمائيا موثقا لذكريات شخصية آسرة، تختزل عملية افتراس السياسي والشعري بامتياز. صحيح أن الشعر لا يُفترس في نهاية المطاف، ولكن المرء لا يملك مع ذلك إلا أن يجد نفسه مستغرقا في لجة الكتاب، مفعما بالكآبة والهمّ والغمّ، سابحا في معمعان ذكريات شخصية ولقطات لماحة، سجلها مخيال الكاتب عن السياب على مدى خمسين عاما؛ في الهزيع الأخير من حياة مبتورة.

ناقد من سوريا مقيم في لندن


(*) كتاب السياب في أيامه الأخيرة: ذكريات شخصية، يصدر في يناير/كانون الثاني 2015 عن دار ( جداول) في بيروت.

14