غادر الشعراء بين منفي وراحل وتركوا الجمال يتيما في العالم

الشّعر العابر للأزمنة العابرة بمخيلة الغياب، وهو يحاول القبض على لحظة وجوده الهاربة، ما زال يواجه أسئلة الذات والعالم بيقين غائب وتمرّد أعزل إلا من تراجيديا اللحظة السيزيفية. هكذا كان وهكذا سوف يبقى الشعر مغامرة تترحل بين أسطورة سارق النار، وأساطير الحياة اليومية في عالم يقف على حافة الانهيار والأمل.
لهذا كيف نحاول تجزئة صيرورة التجربة وصورتها، في مرايا الأعوام، مقتفين أثره وهو يعبر بين عام وعام. وكيف نقبض على حبله السري وسط هذه الفوضى الشعرية، وهذا الانفجار الكبير للواقع المتشظي؟ رغم صعوبة الجواب لا بد من المحاولة. لأن ثمّة تجارب يحاول أصحابها أن يشكّلوا ضمير اللحظة العربية الفارقة إنسانيا ووجوديا وجماليا، بكل عصفها وموتها ووجعها العظيم، من دون أن يسقطوا في المباشرة واللغة الوجدانية والخطاب لسياسي، بينما هاجس الكينونة والوجود ما تزال تشغل جانبا آخر من التجربة المسكونة بالحرائق، في الوقت الذي تحاول فيه قصيدة النثر أن تحتلّ مساحة المشهد الشعري كلّه مسكونة بالبحث والتجريب، وسط فوضى واسعة على صعيد النشر ومهرجانات الشعر والنشر، وكأنّها تحاكي بذلك جزءا من فوضى الحياة الثقافية، أو تختزلها في ذاتها.
الكثير والقليل
شعراء كثر وقرّاء أقل. نصوص كثيرة، وشعر أقلّه يغني عن كثيره. لهذا سوف نحاول الوقوف عند أهم علاماته وشواغله ومقترحاته ومغامراته، ومعرفة ما يمكن أن تكون تجاربه قد أضافت أو طرحت من أسئلة وقضايا تتعلق بصيرورة هذه التجربة، وهواجسها الفكرية والجمالية، سواء على صعيد اللغة أو التشكيل أو الصورة، أو على صعيد علاقات التناص بين الشعر والفنون والأجناس الأدبية الأخرى.
من أهم الأعمال الشعرية التي صدرت هذا العام ديوان “النازلون على الريح” لمحمد شمس الدين، وديوان “يأس نوح” لنوري الجراح، وديوان “فراشات لابتسامة بوذا” لشوقي بزيع، و”لست جرحا ولا خنجراً” لقاسم حداد، وديوان “داكن” لمنذر المصري، على ما بين نصوص هذه الأعمال من تباين في الشكل واللغة والتجربة ومغامرة الكتابة.
ما ينشر من دواوين شعرية في دور النشر الخاصة يتم غالبا على نفقة أصحابها بينما تخضع عمليات النشر الرسمي للشعر للعلاقات الشللية ودرجة رضى السلطة عن الشاعر
لكن السؤال الذي يتقدم على ما عداه هو، هل ثمّة جديد في صورة مشهد هذا العام، يمكنه أن يشكل إضافة مهمة إلى رصيد التجربة الشعرية العربية، أو تحول ما يعبر عن تطور لافت على مستوى مقترحه الجمالي، بصورة يعكس معه حيوية التجربة وقدرتها على الإضافة والتطور، أم أن هذه التجربة ما زالت أسيرة مقولات ومفاهيم ورؤى سابقة تصادر أيّ محاولة للتجديد والإضافة، وتخلق حالة من التناسخ والفوضى يعززها تراجع المساهمة النقدية الفاعلة والمؤثرة، وغياب الأفق النظري الذي يضيء ويعمِّق حالة الوعي الشعري الجديد جماليا؟
إن معرفتنا بأنّ مثل هذا التحول في صيرورة التجربة هو وليد تراكم في إطار السياق التاريخي لهذه التجربة، وتفاعل حيّ مع الواقع وتجربة الشعر في العالم وتوافر الموهبة الخلاقة والمبدعة، لا تمنع من البحث عن الإضاءات الجديدة التي تقدّمها بعض التجارب في هذا السياق، خاصة وأن تجربة الشعر العربي هي من حيث الغنى والتاريخ والتراث تعد من أعرق التجارب في العالم، ما يجعل الشاعر العربي المعاصر يمتلك إرثا عميقا يستند إليه، ومخيّلة شعرية مفتوحة على آفاق واسعة وتاريخ ثري بتحولاته ومكتسباته الشعرية.
علامات أولى
ثمة ظاهرتان بارزتان يمكن أن تلفتا انتباه المتابع للمشهد الشعري العربي هذا العام، أوّلهما محدودية المهرجانات الخاصة بالشعر أو الندوات النقدية المتخصصة، التي تبحث في قضايا الشعر وأحواله، وفي الأسئلة الجمالية التي يطرحها واقع التجربة الراهنة، حيث يتم تطوير المنجز المتقدم فيها وإغناؤه، وترسيخ تقاليده واقتراحاته التي يمكن أن تنقذ الشعر من حالة الفوضى والانفلات والاستنساخ التي يعاني منها، في ظل غياب الاهتمام الحقيقي من قبل المؤسسات الثقافية بواقع الشعر وتطوره.
|
على صعيد آخر ما زال أغلب ما ينشر من دواوين شعرية من قبل دور النشر الخاصة يتم على نفقة أصحابها نظرا لمحدودية بيع هذه الدواوين، بينما تخضع عمليّات النشر من قبل الجهات الثقافية الرسمية للعلاقات الشللية وعلاقة الشاعر بالسلطة في الغالب. ولا يختلف الحال بالنسبة إلى المجلات الثقافية والصفحات الثقافية في الصحف التي يخضع النشر فيها لاعتبارات شخصية، أو ذائقة المحرر الخاصة دون أن تحاول الملاحق والمجلات الثقافية أن تثير الحوارات التي يمكنها أن تحرك ركود الحياة الثقافية، وتفتح الباب أمام المعنيين والمهتمين بقضايا الشعر وأسئلته، لمناقشة وتطوير مقترحاته الجمالية ومنظومة مفاهيمه النظرية بما يغني التجربة، ويخرجها من الحالة السديمية التي تعيش فيها على مستوى اختياراتها ومرجعياتها النظرية والمفهومية.
تفرض هذه الحاجة نفسها من خلال تراجع الاهتمام النقدي بالشعر ومحدودية الإسهامات النقدية التي تبحث وتسائل وتدرس أوتنِّظر، ما جعل من الصعوبة التوقف عند كتاب نقدي تحليلي أو نظري يشكل إضافة مهمة تغني المشهد النقدي،الأمر الذي جعل حالة الفوضى والاستنساخ تتوسع وتلقي بظلال داكنة على التجارب البارزة التي تضيع في هذا الزحام. تترافق هذه الظاهرة مع مسألة أخرى تتمثل في محدودية ترجمة الأعمال الشعرية الأجنبية إلى العربية باستثناء نصوص بعض الأسماء الكبيرة، وذلك للأسباب نفسها التي تجعل دور النشر تعزف عن الاهتمام بنشر مثل هذه الترجمات التي يمكن أن تثري التجربة الشعرية وتحقق تفاعلها مع التجربة الشعرية العالمية.
رحيل وجوائز
الظاهرة الأبرز في مشهد هذا العام تمثلت في رحيل عدد من أبرز الوجوه الشعرية تنتمي إلى أجيال وتجارب مختلفة أبرزهم أنسي الحاج صاحب ديوان “لن” وأحد مؤسسي مجلة “شعر” التي اطلقها يوسف الخال، ومن المنظرين للحداثة الشعرية. كما رحل الشاعرالفلسطيني سميح القاسم بعد صراع مرير مع المرض، والشاعر اللبناني السوري الأصل سعيد عقل، أحد أهم شعراء المدرسة الشامية والكلاسيكية الحديثة. وكان سبقه رحيل الشاعر الغنائي اللبناني جورج جرداق. اللافت في رحيل هذه الوجوه أنها من الوجوه الإشكالية في مواقفها السياسية من “الانتفاضات العربية” والزلزال السوري تحديدا.
أما على صعيد الجوائزالشعرية لهذا العام، فلم يكن الحال أفضل كثيرا عن الجوائز الأدبية الأخرى، وإن كانت جائزة البابطين هي الأكثرتنوعا من حيث الاهتمام بالشعر ونقده، وقد تقاسم الفوز بجائزة أفضل قصيدة الشاعران أحمد الجهمي من اليمن وسمير فراج من مصر، بينما فاز الشاعر الراحل جورج جرداق عن مجمل أعماله، والمنصف الوهايبي عن ديوانه “ديوان الوهايبي”. وفاز الدكتور يوسف أبو العدوس من الأردن بجائزة نقد الشعر. كما أعلنت نتائج جائزة الشارقة للشعر وفاز بالمركز الأول والثالث شاعران من سوريا وبالجائزة الثانية شاعر من اليمن.
تراجع الاهتمام النقدي بالشعر جعل حالة الفوضى والاستنساخ تتوسع وتلقي بظلال داكنة على التجارب المهمة التي تضيع في الزحام
كما أعلنت نتائج جائزة السلطان قابوس وجائزة عبد العزيز المقالح للشعر في اليمن، إلى جانب جائزة القصيدة العربية في المغرب. ورغم أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الجوائز في الإضاءة على بعض التجارب الشعرية، إلا أن الملاحظ أنها لم تكشف عن تجارب يمكن أن تضيف إلى المشهد الشعري الراهن ما هو مختلف أو جديد، والسبب في ذلك غالبا أن هذه الجوائز في معظمها تصدر عن جهات رسمية أو شبه رسمية بداعي الترويج الثقافي للجهة أو لشخص صاحبها أكثر مما هي احتفاء بالشعر، أو سعي وراء تشجيع الشعراءعلى تطوير تجاربهم.
الشعر والانتفاضات
مازالت تداعيات الواقع الجديد الذي أفرزته الانتفاضات العربية ضد أنظمة الاستبداد والفساد والقمع تفرض نفسها بقوة على تجارب الشعراء العرب، لا سيما في الأقطار التي عاشت تلك الانتفاضات، أو التي ما زالت تنوء تحت ثقل مأساتها الإنسانية والوجودية والروحية، كما هو الحال بالنسبة إلى الانتفاضة السورية التي تخلى العالم عن مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية تجاه هول الجريمة وفظاعة القتل الذي يمارسه نظام الجريمة ضد الشعب الثائر على طغيانه.
هذا الواقع طرح على الشعراء مسؤوليات جسيمة وتحديات كبيرة على المستوى الجمالي والفكري، إذ كيف يمكن للشعر أن يحفر في العمق الدلالي والرمزي لهذه الانتفاضات، وأن يصوغ نصه الجديد بالصورة التي تجعله تكثيفا عاليا لقيامة الحياة، أو أن يتمثل بطولات الجسد العاري في مواجهة آلة القتل والدمار، أو أن يرتفع برمزيتها إلى المستوى الذي يكون فيه الشعر قادرا على الإمساك بمفتاح لحظتها الفارقة جماليا، دون أن يسقط في المباشرة أو لغة الخطابة أو الوجدان. لقد ساهم التمايز في الحالة التي انتهت إليها هذه الانتفاضات العربية في اختلاف مضامين التجارب التي صدرت هذا العام، وفي مناخاتها ومقارباتها، بينما ظلت الأعمال الشعرية التي صدرت في أقطار عربية أخرى تقف على الضفة المقابلة، مشغولة بهواجسها الفكرية والوجودية والذاتية وكأن لا شيء يحدث هنا والآن على طول أرض الزلازل وعرضها من مجازر رهيبة وتحولات كبيرة شكلت نقطة العلامة الأبرز في تاريخ العرب الحديث.
|
ولأن الانتفاضة السورية هي الأكثر تراجيدية وبسالة بين الانتفاضات العربية بسبب توحش نظام الجريمة فيها، وتخلي العالم عن دعم هذا الشعب وحمايته ما أدى إلى طول زمنها وتعقد مشهدها الدموي والإنساني، فقد ألقت بظلالها الكثيفة وآثارها الدامية على تجارب أغلب الشعراء والشاعرات السوريين الذين تباينت مستويات تجاربهم وأشكال مقارباتهم لها من حيث القيمة الجمالية، والقدرة على استحضار عمق المأساة، ودلالات الفعل البطولي لشعب يواصل نضاله من أجل الحرية رغم الموت بكل وسائل الموت الهمجية. لذلك يمكن القول إن أكثر الأعمال الشعرية التي صدرت في هذا السياق كانت سورية، وقد طغى عليها البعد التراجيدي لهذه المأساة الإنسانية الكبيرة. هذا الوضع السوري الاستثنائي بكل شيء استدعى تفاعلا وتماهيا استثنائيا ربما يكون هو ما منح أغلب تلك التجارب عمقها وثراء تجربتها.
شعر المنافي
أفرزت حالة الحروب المتلاحقة والقمع ظاهرة شعراء المنافي الذين هربوا من جحيم الموت في أوطانهم، أو من قمع مستشر وانعدام فرص الحياة الكريمة، فاختاروا المنافي وطنا بديلا لهم. هذه الظاهرة التي أخذت بالتوسع في السنوات القليلة الماضية، كان الشعراء السوريون الهاربون من جحيم الحرب التي أعلنها النظام على السوريين جزءا منها، ولذلك كان من الطبيعي أن تحاول أعمالهم التي صدرت هذا العام تمثّل مشهد الجريمة الكبرى وآلام الوطن الذي استباحه الطاغية بحقده الأسود، إلى جانب التعبير عن الحنين والشوق لوطن مختطف، كقصائد الشاعر ين حسين حبش وأكرم قطريب.
وفي حين تتباين كثيرا مستويات التجربة بين شاعر وآخر من حيث العمق والرؤية واللغة، فإن هذه المنافي قد أتاحت لبعض الشعراء إمكانية تقديم أنفسهم خارج حدود ثقافة بلدانهم والمشاركة في العديد من مهرجانات الشعر العالمية، حتى ممن هم من أصحاب التجارب المتواضعة، بالاعتماد على الترويج والعلاقات العامة. وعلى الضفة المقابلة يمكن القول إن شعراء العراق هم الأكثر حضورا وانتشارا بسبب قدم وجودهم في بلدان المنافي وتنوع تجاربهم وأجيالهم. لذلك من الطبيعي أن يكونوا الأكثر مشاركة وإنتاجا هذا العام كما في الأعوام السابقة، خاصة وأن بينهم من هم ينتمون إلى جيل الستينات والسبعينات ويمتلكون تجارب معروفة، على خلاف الشعراء السوريين الشباب.
كلام أخير
في هذا العام وكما كان عليه الحال في سنوات مضت ما زال الشعر يعيد طرح الأسئلة القديمة، ويثير نفس السجالات والجدل حول قضاياه وآفاقه وتجاربه، إلا أن الخطير في الأمر أن البعض ممن كان ينظّر للشعر والحداثة والتحول ما زال يحاول تبرير انحيازه إلى جانب الطغاة وأنظمة الاستبداد مستخدما لغتهم في تبرير جرائمهم، في حين ما زال صوت الشعراء العرب حتى في بلدان الانتفاضات هو الأقل مشاركة وانحيازا لهذه الانتفاضات، وما عبّرت عنه من لحظة فارقة في تاريخ العرب الحديث رغم محاولات سرقتها وإفراغها من مضامينها الثورية وروح التغيير والتجديد التي خلقتها، حيث يندرج هذا الموقف في إطار إشكالية أكبر تتعلق بواقع المثقف العربي وحالة الضياع التي يعيشها بفعل الوعي المستلب للأيديولوجيا والاستبداد الذي لم يحرر يوما أرضا ولم يصن كرامة أو ينجز تقدما.