عام روائي عربي حافل في مواجهة أسئلة الجمال ومخاضات الواقع الدامية

واصلت الرواية العربية في هذا العام كما في أعوامها السابقة مغامرة البحث والتجريب والتأمل في الواقع، وفي منجزها السردي والحكائي دون أن تحقق اختراقات مهمة، يمكن أن تنضاف إلى رصيدها السابق، ذلك أنها بعد المآلات العاصفة التي انتهت إليها انتفاضات الربيع العربي باتت أمام تحديات كبيرة فكرية وجمالية، تستدعي منها التأمل والتقصي والبحث، بغية تمثل هذا المشهد الدامي الذي يكاد يطيح بقيم التحرر والتقدم والحداثة التي خاض العرب معركتها طوال أكثر من قرن من الزمن.
أمام هذا الواقع الملتبس لا يبدو أن المنجز الروائي لهذا العام كما في سنواته السابقة قد استطاع أن يتساوق في رؤيته وتمثيلاته السردية ومعالجاته الفكرية والجمالية، مع تحديات الواقع وما يطرحه على الوعي الروائي من أسئلة ومهام لأسباب كثيرة، لعل أهمها الطابع الدراماتيكي المتلاحق للأحداث، وضبابية المشهد وتعقيداته التي تجعل الروائي بحاجة لالتقاط الأنفاس والتمعن بعمق وحساسية فيما يحدث، بعيدا عن الجانب الانفعالي أو التحيز الفكري والأيديولوجي، خاصة وأن هناك قوى تحاول اختطاف هذه الانتفاضات وتسخيرها لحساب مصالحها، إضافة إلى ما تحاوله قوى الاستبداد ورموزها الثقافية والسياسية لاستعادة مواقعها التي خسرتها في المشهدين السياسي والثقافي، في آن معا.
الرواية أولا
على الرغم من كل هذا التعقيد والتداخل في صورة المشهد وتداعياته النفسية والفكرية، ما تزال الرواية العربية تحاول أن تعبّر في شواغلها وهمومها عن روح الكفاح والثورة، التي عبّرت عنها تلك الانتفاضات وإن بدأ هذا الحس بالخفوت والتراجع وسط حالة المخاض الدامي الذي يعيشه الواقع العربي، وينوء تحت ثقله.
رغم ذلك ما زالت الرواية تتسيّد المشهد الثقافي سواء من خلال حجم الإصدارات، أو التداول والبيع الذي تأثر كثيرا نتيجة لهذا الواقع، أو من خلال عدد الجوائز المخصصة لها.
الدائرة الجغرافية للمرأة الروائية لم تعد تقتصر على مدن المراكز الثقافية المعروفة، بل تجاوزتها إلى ما كان يسمى مجازا بدول الهامش
إن تصدّر الرواية العربية للمشهد الثقافي لا يعني أن المنجز الروائي قد استطاع تحقيق اختراقات مهمة على صعيد التجارب الروائية، أو أنه تفوق على نفسه من حيث قدرته على تمثل هذه المخاضات العسيرة للواقع وآلامها وتمزّقاتها، وما تفصح عنه من تناقضات واختلالات عميقة في بنية الواقع وثقافته وعلاقاته القائمة، إذ لا يزال الطابع الانفعالي أو التسجيلي يغلب على العديد من تلك الروايات التي صدرت هذا العام، والتي تتباين وفقا لطبيعة التجربة التي يعيشها كل بلد من بلدان تلك الانتفاضات.
أما المنجز الروائي في الأقطار العربية الأخرى فهو ما زال مشغولا في البحث في طبقات التاريخ، أو موضوعات السيرة الذاتية، أو قضايا الواقع الاجتماعي، التي تتداخل فيها الانشغالات بدءا من موضوع الحب وحتى قضايا الفساد والحرية وإحباطات الواقع وضياعه، كما تعبّر عن ذلك شخصيات تلك الأعمال التائهة وسط هذا المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي المتداعي.
وبينما تنفرد بعض الأعمال الروائية السورية للجيل الجديد من الروائيين بمقاربة واقع الاستبداد والقمع في سوريا ومحاولة تمثل المذبحة الكبرى لشعب خرج يطالب بحريته، فإن هواجس التجربة السردية العربية ظلت بعيدة عن تقديم رؤية واسعة، تعبر عن صيرورة الواقع العربي ككل، ووحدة معاناته وتطلعاته نحو التحرر والحياة الكريمة.
صدرت هذا العام أعمال روائية كثيرة بحيث يصعب عرض اسمائها كلها، إلا أن أغلب هذه الإصدارات قد غابت عنها الاسماء الكبيرة نسبيا، في حين صدرت روايات هي الأولى لكتابها كرواية "فندق بارون" لعبدو خليل من سوريا و"التي تعد السلالم" لهدى حمد من عمان و"الفلامنجو يهاجر من تلمسان" لخليل خميس. كذلك يلاحظ غياب الاسماء النسوية الهامة من الكاتبات، باستثناء حنان الشيخ التي أصدرت روايتها "عذارى لندنستان".
ومن الأعمال التي صدرت هذا العام رواية "ريام وكفى" لهدية حسين من العراق، ورواية "كتاب الميلانخوليا" لنجم والي من العراق و"سدرة المنتهى" لواسيني الأعرج من الجزائر، و"برتقال مر" لبسمة الخطيب، و"لا أحد يعرف زمرة دمه" لمايا أبو الحيّات، و"عشاق نجمة" لسلوى البنا، من فلسطين، و"دوامة الرحيل" لناصرة السعدون من العراق، و"جدائل صعده" لمروان الغفوري من اليمن، و"البحر خلف الستائر" لعزت القمحاوي، و"أقمار النيل" لخيري الشلبي، و"أحلام منسية" لعمار علي الحسن من مصر، وبالتساوي لخليل الرز من سوريا، و"نزهة الدلفين" ليوسف المحيميد من السعودية، و"السنيور" لعزت صافي، و"الصفحة الثانية" لإلهام منصور من لبنان، و"أقاليم الخوف" لفضيلة الفاروق من الجزائر.
|
الإصدارات والقضايا
تباينت شواغل السرد الروائي وحجم الإصدارات الروائية بين قطر عربي وآخر، حتى بالنسبة إلى البلدان التي تعيش أوضاعا صعبة من الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار كاليمن، التي شهدت في هذا العام فورة في عدد الأعمال التي نشرت، والتي قاربت العشرين عملا روائيا، في حين تراجع حجم الإصدار الروائي في بلد مثل السعودية، لا سيما على صعيد المنجز الروائي النسوي الذي شكل قبل أعوام ظاهرة لافتة حازت على الاهتمام والمتابعة.
هذا التباين في حجم الأعمال المنشورة قابله تباين في شواغل السرد وموضوعاته نظرا لاختلاف القضايا والظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها كل بلد من بلدان العالم العربي.
وبينما عبّرت بعض الأعمال الروائية في المغرب العربي عن انشغالاتها بقضايا التاريخ والتراث وهموم الواقع الاجتماعي، فإن الرواية العراقية عبّرت عن هموم الواقع العراقي وتحدياته سياسيا واجتماعيا وإنسانيا بصورة تعكس حجم الانهيار والتمزق الذي يعيشه الواقع هناك، سواء على المستوى الداخلي، أو على مستوى عالم المنافي والغربة والبحث عن الذات والهوية.
أما بالنسبة إلى الرواية السورية فقد حاولت الأعمال المنشورة هذا العام أن تتمثل حجم المأساة الإنسانية والمعاناة التي تجاوزت حدود المعقول لشعب يواجه الموت والتشرد والحصار الذي يفرضه نظام القتل والطغيان عليه وسط صمت العالم المريب وتخلّيه عن مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية تجاه معاناته.
هذا التباين في مستويات السرد والرؤية السردية وشواغل السرد وثيماته، قابله أيضا تباين في مستويات الأعمال، التي صدرت فنيا وفكريا وجماليا، لكن الملحّ الأساس الذي تتقاطع فيه أغلب تلك الأعمال، هو هيمنة الاتجاه الواقعي.
لقد عززت مساهمة المرأة الكاتبة في المنجز الروائي العربي من حضورها وقدرتها على إغناء هذه التجربة، لكنها ظلت تتوزع على تيارين أساسيين، أولهما تيار يطرح قضايا المرأة باعتبارها جزءا من قضايا الواقع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العامة، دون تعويم لها، أو التمركز حول موضوع الذات الأنثوية وبحثها عن هويتها ووجودها الخاصين، وثانيهما اتجاه آخر ظل مشغولا بموضوع المرأة ومعاناتها الاجتماعية والنفسية والروحية، والتعبير عن إحباطاتها وخيباتها العاطفية في الحياة والعلاقة مع الرجل، إلا أن حجم المنجز الروائي هنا ظل محدودا، وغابت عنه الأسماء المتميزة التي قدّمت في الأعوام الماضية أعمالا مهمّة، في إطار وعي نسوي يحفر في وجود المرأة وبحثها عن ذاتها وسط واقع يتناهبها ويعمل على إقصائها.
رغم تعدد المنجز الروائي وتنوع الإسهامات السردية في مشهد هذا العام فقد ظل السائد هو الاتجاه الواقعي والواقعي السحري والتاريخي، والسمة الأبرز التي تميز أغلب التجارب
جوائز، جوائز
شهد العام الحالي تزايدا في عدد الجوائز العربية المخصصة للرواية مع الإعلان عن جائزة كتارا القطرية للرواية العربية التي تعد أكبر جائزة مادية تمنح لعمل روائي حتى الآن.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا تجاهل باقي الفنون الأدبية الأخرى والتنافس على صعيد جوائز الرواية، لا سيما من حيث قيمتها المادية. لقد كان هذا العام عام الجوائز بالنسبة إلى الرواية، إذ أعلنت جائزة المزرعة للرواية السورية عن نتائجها التي فازت بها ثلاثة أعمال لكاتبين هما فخرالدين فياض عن روايته “رمش إيل” والمسرحي غسان الجباعي عن روايته “قهوة الجنرال”، وكاتبة حلت في المرتبة الثالثة هي سوسن جميل حسن عن روايتها “قميص الليل”، وقد تركزت هذه الأعمال الفائزة في شواغلها حول قضايا القمع والقتل الوحشي لنظام الاستبداد في سوريا، في حين فاز الروائي العراقي أحمد السعداوي بجائزة البوكر للرواية العربية عن روايته “فرانكشتاين”، التي تستحضر حالة التمزق والفوضى والانهيار التي يعيشها الواقع العراقي الراهن والآثار العميقة له على مستقبل العراق.
كما فازت روائية سورية هي توفيقة خضور بالجائزة الأولى عن روايتها “سأعيد إنجاب القمر” بجائزة الطيب صالح للرواية، بينما حل ثانيا الكاتب السوداني علي الرفاعي، والجزائري أحمد طيباوي جبريل في المرتبة الثالثة. وكان فوز الروائي الفرنسي باتريك موديانو عن روايته الشخص المفقود بجائزة نوبل للآداب قد أثار تساؤلات عديدة حول كيفية اختيار اللجنة المسؤولة عن هذه الجائزة للفائزين، والقيمة الحقيقية التي تجعل أعمال هذا الروائي الذي آثر العزلة والابتعاد عن الأضواء، في المشهد الروائي العالمي، جديرة بجائزة بهذه القيمة العالمية الكبيرة.
الرواية والترجمة
شهدت ترجمة الرواية الأجنبية تزايدا ملحوظا من قبل دور النشر الخاصة والمؤسسات الثقافية الرسمية، نظرا للإقبال الملحوظ على قراءة الرواية وفي طليعتها الرواية الأجنبية، الأمر الذي جعل بعض الأعمال الروائية المشهورة لأسماء عالمية معروفة تحظى بأكثر من ترجمة نتيجة غياب القوانين التي تمنع من ترجمتها، دون الحصول على موافقة الجهة المعنية بحقوق المؤلف.
|
المرأة الكاتبة
رغم صدور عدد لا بأس به من الأعمال الروائية لكاتبات من بلدان عربية مختلفة، وفوز بعضها بجوائز عربية إلا أن السمة الغالبة على هذه الأعمال هي الانشغال بقضايا الواقع الاجتماعية والسياسية والوجودية بينما غابت الأعمال الهامة التي تعكس وعيا أنثويا خاصا بالتجربة التاريخية والاجتماعية التي تعيشها المرأة في مجتمع محكوم بقيم الذكورة وسلطتها، إضافة إلى غياب الأسماء التي تصدرت المشهد الروائي النسوي وحضور التجارب الجديدة لكاتبات ما زلن في بداية مسيرتهن السردية.
وإذا كانت ظاهرة الشاعر/الروائي ما زالت تتسع أو تستكمل منجزها السابق عند بعض الأسماء، فإن الدائرة الجغرافية للمرأة الروائية لم تعد تقتصر على مدن المراكز الثقافية المعروفة، بل تجاوزتها إلى دول الهامش، وأصبحت التجارب السردية والحكائية لهؤلاء الكاتبات لا تقل أهمية عن المنجز السردي للجيل الأكبر رغم حداثة التجربة.