جرأة ولادة ودهاء شهرزاد، ترويض العنف بالكلمات

الأحد 2014/09/21
حين يبلغ العنف ذراه المريعة، تشتدّ الحاجة إلى أدوار شهرزاديّة في إنقاذ الموقف

لا يمكن الجزم ما إن كان الحديث عن أدب نسويّ يأتي من باب الانتصار للمرأة أم فرض نوع من التأطير والتقييد عليها، وهل يكون في سياق فصل “عنصريّ” معاصر، تتشارك فيه المرأة نفسها ضدّ نفسها بطريقة أو أخرى، ولا سيما أنّ الإحالة إلى الجانب الجندريّ في الأدب قد يقسّم البنية التي يفترض بها الوحدة والتماسك، ذلك أنّ الأدب نتاج إنسانيّ، والإلزام بالحضّ على استخدام مصطلحات بعينها يعطّل حركيّة الكتابة ومرونتها، وربّما يصيبها بالعطب ويسرّب إليها الخلل.

كما هو معلوم أنّ العالم العربيّ يتلقّف المقولات والمصطلحات من الغرب، ويعتمد غالباً النقل دون إعمال العقل كما يجب، فيكون تعريب الحالة قيداً لا انفتاحاً وتواصلاً، ومع رواج أدب نسويّ، والسعي إلى رفع الحيف عن المرأة، يحضر نوع من التواطؤ الأدبيّ، ويمكن تلمّس ذلك في الحالة العربيّة والمشرقيّة الراهنة.


ولادة وشهرزاد


بالعودة إلى التاريخ العربيّ، يبدو مثال الشاعر ولّادة بنت المستكفي أحد أشهر الأمثلة في تاريخ الأدب العربيّ، ولا سيما أنّها بلغت جرأة كبيرة في التصريح عن بعض الأمور والرغبات التي قد توصف بالشائنة، وتجرّ عليها كثيراً من الانتقادات، حيث أنّ تخيّل تطبيق قولها الشعريّ على سلوكها الحياتيّ يبرز حالة تظهير الصور الذهنيّة إلى ممارسات يوميّة.

أنشدت ولّادة ذات لحظة شعريّة محفوفة بهالة من التأثّر والتأثير: “أنا والله أصلح للمعالي/ أمشي مشيتي وأتيه تيهاً/ أمكّن عاشقي من صحن خدّي/ وأعطي قبلتي مَن يشتهيها”. يمكن التساؤل عن جانب من اقتران القول بالفعل، وإمكانيّة إيراده في سياق الإباحيّة، ثمّ المحاكمة التاريخيّة، وإطلاق أحكام بالإدانة والفجور، أو بالحضّ على ممارسة الفحش وتحدّي أعراف المجتمع وقوانينه. ولا بدّ هنا من الإحالة إلى الجانب الرمزيّ الذي يستبطنه الأدب، الجانب الذي يفرض التحدّي على المرأة ومحيطها، واحترام رغبتها، واشتراط المنح بالرغبة والرضى، لا بالممارسة والإرغام، ولا سيما أنّ الشاعرة كانت لسان بنات جنسها، والمرأة ذات المكانة التي تبيح لها قول، ما لا يجرؤ غيرها على التفكير به أو فعله.

وقبل ولّادة وبعدها، يظلّ الحديث عن دهاء شهرزاد متفعّلاً في الأدب والحياة معاً، فلا يكاد يخلو بحث أدبيّ من استحضار شهرزاد بأكثر من صيغة وتجلٍّ. إذ تكون شهرزاد المنقذة والمخلّصة والفادية، تكون المعشوقة التي تروّض بالحكايات غطرسة شهريار وعنفه وروحه النزّاعة إلى القتل والافتراس، تكون الراوية التي ترسم سيناريوهات حبكات كثيرة لروايات لا حصر لها.

وبمحاولة نبش دوافع الراوية واختلاقها الحكايات التي تؤجّل القتل وتؤجّج التشويق، وتبقيه مستعراً إلى ليالٍ تالية، يمكن التوقّف عند جانب الاستدراج في القضيّة، وكيف يمكن للأدب بثّ نوع من الطمأنينة في قلوب القاتل، وتعوّضه عن رغبات القتل والانتقام.

حين يبلغ العنف ذراه المريعة والخطيرة، تشتدّ الحاجة إلى أدوار شهرزاديّة في إنقاذ الموقف، وتخليص الشهرياريّين من شرور أنفسهم قبل غيرهم، حيث سياسة الصيّاد والفريسة، تصبح طَرْقاً على حديد أرواح طالها الصدأ، وتراكمت عليها الضغائن حتّى حوّلتها إلى وحوش. ولعلّ أحد أبرز أدوار المرأة، والكاتبة خصوصاً، يكمن في إنهاض شهرزادها الغافية، وإيكال أدوار معاصرة لها، حيث تتسامى على الجراح، وتزرع بذرة الأمل في قلوب محطّمة. ولا عجب أن تستطيع ذلك، أوليست هي وريثة آلهة الخصب والعطاء..؟

هل هناك منظر أكثر قسوة من امرأة تحمل رأساً مقطوعة بيدها، يحيط بها بعض الأطفال


صور مرعبة


بمقابل الصورة المنشودة للمرأة، هناك صورة تخلق أعظم الرعب في القلوب، حين تتحوّل المرأة إلى محرّضة على العنف والتدمير، تهلّل للقاتل وتثير فيه الحميّة والحماس لممارسة الإجرام وتوسيع دائرة القتل. وهي إذ تفعل ذلك، تكون منقادة لسلطة الجهل، وعتمتها الداخلية التي تعمي بصيرتها، وتسدّ أمامها منافذ النور، فتتحوّل إلى داعية ظلاميّة، بدلاً من تحوّلها إلى داعية تنوير وسلام.

من الصور المرعبة التي تقوّض بها بعض النساء أسس المستقبل، أن تقف امرأة أمام صغارها، أو أمام حشد من الرجال، تكون مغلّفة بسواد البصيرة، ومتقنّعة برايات السواد والثأر، تستصرخ الرجال للقتال، تجمّل لهم الإجرام، ترسم صورة البطل لأبنائها، تحدّد مواصفاته بأنّه ذاك الذي لا يرتوي من نهر الدماء. ولنا في “أمّ قشعم” في التاريخ العربيّ، مثال على ذلك، حين كانت ترشّ عطرها الدمويّ على المحاربين الذاهبين إلى القتال، تبارك لهم الحرب وتحثّهم عليها.

هل هناك منظر أكثر قسوة من امرأة تحمل رأساً مقطوعة بيدها، يحيط بها بعض الأطفال، ينظرون إليها باستغراب مشوب بالإعجاب المضلّل..! ألا تشكّل هذه المرأة خطراً يفوق خطر أيّ وحوش أو شياطين في هذا العالم..؟ أيّ جيل مأمول يمكن أن تخلّف امرأة كهذه..؟ ألا تكون مشاركة في تدمير المجتمع بدلاً من دورها التأسيسيّ في تربية الأبناء على المحبّة والسلام..؟

يقع على عاتق الكاتبة والمثقّفة دوماً دور مركّب، فهي تنهض بمهمّة الأدب التي لا تفرّق بين ذكورة وأنوثة، وهي مهمومة بهمومها وتحدّياتها الحياتيّة في مواجهة سلطات قامعة، ربّما تبدأ من الدائرة الضيّقة المحيطة بها ولا تقف عند حدود بعينها، أي هي موكولة تلقاء بالمحاماة عن نفسها وبنات جنسها والمجتمع برمّته، وخطابها لا يختلف عن خطاب المعاصرة المفترض من الآخر، سواء كان ذلك نقداً أو إبداعاً أو مشاركة من أيّ نوع كانت.

بدأ بعض التيارات، الأصولية والسلفية، بهجوم استباقي على الحريات، حيث تكون المرأة هي الضحية الأولى


تلصص وتأويل


يتبدّى جانب من الأمر في استمرار النظر إلى الكاتبة الجريئة بشيء من الاتّهاميّة والإدانة المسبقة، وربط ما تكتب عنه أو تستعرضه بالجانب الشخصيّ من حياتها وسلوكيّاتها، والتقوّل عليها، ومحاصرتها لفرض إعادتها إلى الحوزة الاجتماعيّة التي تبقيها في إطار المتداول تاريخيّاً والانخراط في سلسلة السلف والخلف دون أيّ اجتهاد أو تغيير.

يكون الجانب الأخطر في المسألة حين اتّخاذ كتابة المرأة وإبداعها وسيلة للتلصّص على حياتها، ومحاكمتها غيابيّاً، واتّهامها بترويج الفاحشة حين تتجاوز القيود التي تراكمت بفعل عوامل عديدة، تاريخيّة، اجتماعيّة، دينيّة، سياسيّة، ولربّما يكون العامل الاجتماعيّ هو الأكثر تأثيراً وإيذاء، إذ يتمّ لفْظ الكاتبة وازدراؤها حين لا ترضخ للقيود، وتهمّش بطريقة المعاقب المنبوذ، حتّى تصبح عبرة لغيرها من اللائي قد يفكّرن بتخطّي الخطوط الحمر أو تجاوز خطوط النار المرسومة لهنّ.

يشتدّ سعير تلصّص بعض الباحثين عن إدانة المرأة واتّهامها باللجوء إلى التفسير والتأويل، فيتمّ التعامل مع نصوصها كأنّها تقارير سرّيّة أو علنيّة عن حياتها وممارساتها، عن أفعالها المنفلتة من عقال الحدود الاجتماعية المتعارف عليها، وأفكارها التي تبثّ التفتيت في ثنايا المجتمع، وتحرّض النساء على واقعهنّ. ويكون هذا التقييد بالتأويل دارجاً في المجتمعات المنغلقة، تلك التي ترى في أيّ تنوير خطورة على تأسّنها المهلك.

وقد تبرز محاربة بعض النسويّات بالعري وسيلة للاحتجاج والمواجهة، صرخة أنّ العورة تظلّ في الدواخل والذهنيّات لا في الأجساد فقط، وأنّ تلغيم المجتمع بالكبت والقمع يهيّئ الأرضيّة للانفجار والفساد، ومن هنا يكون إعلان الحرب على مختلف السلطات وارداً في بحر المواجهة المفتوحة، ولكنّ ذلك يثير الاستفزاز المجّانيّ أكثر ممّا يدعو إلى الإنصاف أو ردّ المظالم ورفع الظلم، وقد يبعث على الاستعداء ويدعو إلى السخرية ويجيّر في معرض الإساءة للمرأة نفسها، والحرّيات التي تنادي بها وتدعو إليها.


تحديات متجددة


أضافت الثورات العربيّة تحدّياً جديداً إلى تحدّيات المرأة العربيّة الكثيرة، وفي الوقت الذي كانت تنتظر أن تتخلّص من عقليّة الفحولة المهيمنة، بدأ بعض التيّارات، الأصوليّة والسلفيّة، بهجوم استباقيّ على الحرّيّات، حيث تكون المرأة هي الضحيّة الأولى المقدّمة على مذبح الثورات في حال التخبّط السائدة، وفي مرحلة الانتقال إلى المجتمع المدنيّ ودولة المواطنة والمساواة والقانون، بعيداً عن فروض الطاعة والولاء لأحد.

مع رواج أدب نسويّ، والسعي إلى رفع الحيف عن المرأة، يحضر نوع من التواطؤ الأدبي

وإن كانت الوقائع والمتغيّرات المستجدّة منحت هامشاً أكثر اتّساعاً للمرأة، إلّا أنّ ذاك الهامش نفسه بدأ يتقلّص رويداً رويداً، ولا غرابة أن تجد الكاتبة نفسها لاحقاً أمام خيارات وتحدّيات تفوق تحدّيات المراحل السابقة مشقّة وصعوبة، وهذا ليس من منطلق تشاؤميّ، بل إنّ قراءة استشرافيّة للواقع تنبئ عن جدران ترتفع على مهَل لمحاصرة المرأة، ويمكن أن يحمل الهمّ العامّ هاجس الانتصار للمرأة إلى التقهقر أمام سطوة الآلام، لكن ما لا يمكن إغفاله أنّ أيّ تقدّم حقيقيّ نحو المستقبل، لا يتحقّق إلّا بالمرأة ومعها، وأيّ حديث عن تأجيل الحقوق، أو ترحيلها لأيّ أسباب، ينذر بمخاطر جمّة تتهدّد الحرّيّات المحدودة أصلاً في العالم العربيّ، والتي تظهر كأنّها منّة من المتحكّمين بالناس، أو مَن يتعاملون بطريقة وصائيّة وكأنّ الجميع لم يبلغ سنّ الرشد بعد.

رسم بعض المتأسلمين حدود التبعيّة للمرأة، وكأنّهم يتكرّمون عليها بإعطائها بعض الهوامش للتحرّك ضمن حيّز مقيّد مسموح به، ما شكلّ عبئاً مضاعفاً، وقيداً مركّباً جديداً، كان يفترض أنّ الثورات تغلّبت عليه وأنهت مفعوله، لكنّ محاولة تطويع الثورة لإعادة القيود باسم الدين تارة، وباسم العادات والأعراف تارة أخرى يخلق مزيداً من الشروخ والفجوات بين بُنى المجتمع، ويفرض معارك قادمة كثيرة، تكون صدى لمعارك الأمس نفسها، لكن بطريقة أشدّ قسوة وتدميراً.


قهر المستحيل

لعلّ الواقع يفرض تعاطياً جدّياً مع الهواجس والمخاوف على منجزات المرأة وأدوارها المفترضة، ثمّ إنّ التعامل مع المرأة على أنّها “عورة ينبغي سترها” يعيد التذكير بسجال “البيضة سابقة على الدجاجة أم العكس” أو اللغو عن “الملائكة ذكور أم إناث”. بمعنى أنّ العودة إلى مفرزات عقود من التهميش لن يفيد في دفع عجلة التقدّم الاجتماعيّ إلى الأمام، بل على العكس، يخلّف إرثاً من القهر لا يسهل تخطّيه، ويدفع إلى تفتيت البنى الاجتماعيّة، ويسيء إلى جوهر الدين نفسه.

بالتدقيق في الواقع ومعطياته الكثيرة، المثيرة، يمكن العثور على رأس خيط لقهر المستحيل الذي يكمن في إيجاد مخارج نحو النور، يكون الأمر مقروناً بنهوض المرأة بدورها المحوريّ، التأسيسيّ، الشامل، وتظلّ مبادرة قهر المستحيل متعطّلة لحين تفكيك المرأة لمعادلة التربية والعنف، وتفهّم دروس الماضي وعبره للانطلاق نحو المستقبل. وأيّ حديث آخر عن إعطاء المرأة أدواراً مفترضة محدودة، يظلّ مبتوراً، ونظريّاً، وغير مساهم في حلّ أيّ معضلة حياتيّة أو مستقبليّة.

11