وقف إطلاق النار.. أم بداية إعادة برمجة الشرق الأوسط

في عقل ترامب، لا يقاس الربح بعدد الصواريخ التي سقطت بل بعدد الأوهام التي تم تمزيقها وعدد اللاعبين الذين باتوا مكشوفين ومن منهم أصبح قابلا للابتزاز.
السبت 2025/06/28
يطفئ الحرائق أم يعيد ترتيب الحطب

حين تضع أميركا السكين في الدرج وتشعل الكاميرا..

ليست كل هدنة نهاية حرب. بعضها بداية تجريب. ما يبدو صمتا بين إيران وإسرائيل، قد يكون اللحظة التي تخلع فيها واشنطن قفازها، لا للسلام، بل لجولة بلا دم وبلا قواعد. فترامب لا يُطفئ الحريق، بل يعيد ترتيب الحطب.

الولايات المتحدة لا تبحث عن السلام بقدر ما تبحث عن الزمن الميّت الذي يسبق الانفجار القادم. وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، في ميزان العقل الأميركي، ليس نهاية جولة عسكرية، بل بداية موسم جرد حسابات عميق تحت الطاولة، من خان؟ من أضعف؟ من أفصح أكثر ممّا يجب؟ من يمكن التضحية به؟ ومن يجب أن يعاد تشكيله؟

أول ما تفعله واشنطن بعد هذا النوع من “الهدوء المصطنع” هو استدعاء جنّ السياسة الأميركية من الأقبية، مراكز التفكير السوداء، صقور الـCIA، ورجال المال الذين لا يظهرون إلا حينما يُسكَت المدفع. في عقل الرئيس دونالد ترامب، لا يُقاس الربح بعدد الصواريخ التي سقطت، بل بعدد الأوهام التي تم تمزيقها، وعدد اللاعبين الذين باتوا مكشوفين، ومن منهم أصبح قابلا للابتزاز.

أميركا لن تسأل من ربح الحرب؟ بل ستسأل من صار قابلا لإعادة البرمجة؟ من يمكن تحويله إلى مشروع؟ من يمكن تركه يتعفن حتى يأتي ترامب منقذا؟

إن ما يفعله ترامب ليس ابتكارا أميركيا، بل تحديث مهووس لوصفة بريطانية قديمة، فرّق تَسُد، تلاعب بالعقائد، احرق الأطراف كي تتفاوض مع الرؤوس. هو ونستون تشرشل لكن بنسخة وقحة، بلا سيجار… وبلا جنود. فبدل أن يرسل كتائب، يُرسل تغريدة. وبدل أن يحتل الجغرافيا، يحتل العقل الجمعي. كما فعلت لندن حين سلّحت الطوائف كي تسيطر على الموانئ، يفعلها ترامب بصفقات معلّقة، واتفاقيات لا تُوقّع إلا بعد خراب النفوس.

الهدنة ليست فرصة لالتقاط الأنفاس، بل لحشو الرئة بالغاز السام القادم. ترامب لا يريد شرقا أوسط ساكنا، بل شرق أوسط في حالة اضطراب مدروس يُدار بالريموت الأميركي. فإذا سكتت المدافع، فليبدأ الإعلام. وإذا سكن الشارع، فلتشتعل غرف المخابرات. وإن توقفت الحرب بين إسرائيل وإيران، فلنبدأ حربا بين السنة والشيعة، أو بين الداخل الإيراني الممزق أصلا، أو بين نتنياهو وظله.

ترامب، بعقليته التجارية – الشيطانية، يدرك أن الوقف المؤقت للضربات ليس إلا مرحلة “تسعير جديد” للشرق الأوسط. إنه لحظة مراجعة البورصة، من ارتفعت أسهمه؟ من يجب بيعه؟ من يجب تصنيعه كعدو جديد؟ وربما – على الطريقة الترامبية – من يجب جعله صديقا مفاجئا؟

قد تكون إيران التي صمدت تحت الضربات هدفا لإعادة قولبة. فبدلا من إسقاطها عسكريا، لماذا لا تتحول إلى حصان طروادة أميركي – إسرائيلي داخل المنطقة؟ ولماذا لا يتم التلويح برفع العقوبات مقابل تفكيك حزب الله من الداخل، أو خنق الحشد الشعبي عبر مرجعيات قم؟

وإن لم تنجح خطة الاحتواء، فالخطة البديلة جاهزة، صناعة “النسخة الإيرانية من داعش” وتصديرها إلى حدود أفغانستان، أو إلى الخليج، أو حتى إلى الداخل التركي. واشنطن لا تؤمن بالفراغ… بل تخلقه كي تملأه.

هذا ليس عبثا. هذه هي الواقعية (Realpolitik)، حيث لا أخلاق ولا مبادئ، بل أدوات مرنة للهيمنة، خصمك اليوم هو شريك الغد، وحليفك يجب أن يخافك أكثر ممّا يحبك. ووراء هذا الانضباط الجهنمي تقف فلسفة أميركية أعمق، الفوضى الخلّاقة، حيث تُهدم الدول لتُبنى حسب مقاسات السوق، لا مقاسات الشعوب. إن الشرق الأوسط – في عين أميركا – ليس إقليما جغرافيا بل مختبر للفوضى طويلة الأمد، تخرج منه واشنطن كل مرة بمنتج جديد، أو فتنة مذهبية قابلة للتكرار.

الهدنة ليست فرصة لالتقاط الأنفاس، بل لحشو الرئة بالغاز السام القادم. ترامب لا يريد شرقا أوسط ساكنا، بل شرق أوسط في حالة اضطراب مدروس يُدار بالريموت الأميركي

أما إسرائيل، فهي في عقل ترامب ليست دولة بقدر ما هي سهم في محفظته. إن لم يعد عليه بعائد ملموس – انتخابي، مالي، أو جغرافي – فليُعاد تقييمه. وقد تصبح “إسرائيل المنهكة” أفضل وسيلة لإقناع ناخبيه بأن الشرق الأوسط يحتاج إليه هو فقط كي يعاد تشكيله من جديد.

بل لِمَ لا؟ في قاموس ترامب، حتى إسرائيل ليست فوق الشك. ماذا لو قرر ترامب أن يهين نتنياهو علنا، كي يعيد تشكيله سرا؟ ماذا لو أصبحت تل أبيب ورقة ضغط لا على العرب بل على اللوبي الإسرائيلي نفسه؟ في لحظة من لحظات الجنون – الحساب، قد تتحول إسرائيل إلى ضحية مقصودة لـ”إعادة الضبط الترامبية”، تماما كما يُرمى جوكر الورق على الطاولة لتُعاد اللعبة من جديد. الابتزاز لا يستثني أحدا حتى لو كان يرتدي قلنسوة ويملك ترسانة نووية.

وأما دول الجوار فهي بيادق يجب اختبار ولائها في هذا الهدوء. من منها ستتصل بطهران؟ من ستبعث رسائل لنتنياهو؟ من ستبدأ الحديث عن إعادة الإعمار؟ هذا ليس “وقف إطلاق نار” هذا اختبار كشف سياسي – أخلاقي شامل، وترامب يدوّن ملاحظاته بدقة قاتل مأجور.

باختصار، واشنطن لا تهمها النتيجة على الأرض، بل في العقول. وقف إطلاق النار هو بروفة للضربة الكبرى القادمة لكن هذه المرة قد لا تكون ضربة نووية، بل ضربة هوية. قد تُقصف العقائد، تُخرق السيادات، يُصنع “خميني سني” أو “نتنياهو شيعي”.

أميركا لن تسأل من ربح الحرب؟ بل ستسأل من صار قابلا لإعادة البرمجة؟ من يمكن تحويله إلى مشروع؟ من يمكن تركه يتعفن حتى يأتي ترامب منقذا؟

إنه ليس سلاما بل لحظة وضع السكاكين في أدراجها، وتثبيت الكاميرات في السقف. الجولة القادمة ستكون بلا دخان، بل بصوت حذاء ثقيل يدخل بيتك من دون أن تراه.

وها قد بدأ العد.

7