عصافير حميد زناتي الملونة تغرد مجددا من تونس

معرض يستعيد تجربة الفنان رفقة فنانين آخرين على ضفاف المتوسط.
الخميس 2025/06/26
أعمال صاخبة الحركة والتجديد والتجريب

تعيدنا تجارب بعض الفنانين العصاميين إلى فطرة الفن ووهجه الأول، تلك القوة التي قد تتوه في تضاريس الوعي الأكاديمي، والضرورية لأي عمل فني يطمح إلى أن يكون تجربة حسيّة حية قبل أن يكون أفكارا متلاصقة. وهكذا هي تجربة الفنان الجزائري الراحل حميد زناتي الذي يحتفى بأعماله رفقة أعمال فنانين عرب في تونس هذه الأيام.

لأنه عصامي عنيد، مبتكر حسي وجريء، لم توقفه الحدود ولم يعترف بالقوالب، ولم ينتم إلا إلى الجمال فنا وإنسانية، ولأنه كان المتحرر البوهيمي الطفل الناضج الحكيم المجنون، تعلم الرقص على إيقاع الجسور واللحاق بالضوء لملامسة علوه الشاهق نحو تفاصيل الفناء باللون وفيه، بالخامة والتجريب بالأساليب حد الانتماء إلى فكرته المتفردة وسذاجته الطيعة المبتكرة.

تتحدث عنه اليوم لوحاته وأعماله الفنية المعروضة بتجليات ساحرة متكاملة مغرية ومتفردة، عن طموحه المندمج الضاج الخفي والمعلن في عمق شرقي مرتحل من مدينته لغته ليخلد اسمه بكل اللغات التي أتقنها الفنان التشكيلي الجزائري حميد زناتي.

ذاكرة ومخزون بصري

الأعمال المعروضة مع ممارسات زناتي الفنية ومرجعياته الأدبية والبصرية، تتكامل وتتحد مع فكرة التواصل الإنساني
الأعمال المعروضة مع ممارسات زناتي الفنية ومرجعياته الأدبية والبصرية، تتكامل وتتحد مع فكرة التواصل الإنساني

 حميد زناتي حالة فنية خاصة ورحلة بصرية ممتعة وذاكرة لم يخفت الرحيل الجسدي بريقها، خلدتها التجربة، وتكاملت معها الدهشة بكل تلك التلونات والتلوينات، زناتي الذي لم يتذكر من اللغة العربية التي كان يتعلمها بالسر في ظل فرنسة طاغية الثقافة والاحتلال إلا جملة من نص كان كلما سألته عائلته ماذا تعلمت اليوم يقول “الزواويش تزقزق فوق الشجرة.”

حمل التشكيلي الجزائري حميد زناتي ذاكرته وشرد أبعد عن مدينته قسنطينة وبلاده الجزائر ليحط رحاله، بداية ستينات القرن الماضي، في ميونخ ألمانيا الغربية، من هناك انطلق في مساره ومسيرة الفن المؤلم، القادر على تحويل الآلام إلى آمال محلقة وابتكارات ملونة، لتترسخ شخصيته المندفعة نحو هوية وذاكرة خاصة، وهذا ما اجتمع في معرض جديد له يعتبر الأول عربيا وأفريقيا.

“الزواويش تزقزق فوق الشجرة” لحميد زناتي ليس مجرد جملة عالقة في الذاكرة بل هو عنوان استثنائي لمعرض احتفى به فضاء B7L9  بتونس، منذ مايو الفارط ويستمر حتى يوليو المقبل، أعماله تفكيك للرحلة والسفر عبر ذاكرة وهوية وعودة تنبش في عمق الاتصال مع الجذور في ماهية الهوية الأولى بحثا عن غزالة مالك حداد في منفى الذات وأرصفة الغربة التي لا تجيب، ورنين الحرية النقية الصافية للإنسانية الباقية.

 المعرض يعتبر تكريما لروح زناتي وإرثه الفني المتنوع، هذا الفنان الذي اختطفه الموت قبل أن يرى أعماله تجوب منطقته ووطنه، وينظم المعرض فضاء B7L9 مؤسسة كمال الأزعر، بالتعاون مع أرشيف حميد زناتي لحفظ أعماله، وبدعم من معهد غوته الألماني، بينما يأتي تحت إشراف القيمة الفنية نادين نورالدين بمساعدة آنا شنايدر.

“الزواويش تزقزق فوق الشجرة” رحلة ملونة لحميد زناتي وأعماله المتنوعة التي انعكست على تفاصيل حياته صاخبة الحركة والتجديد والتجريب، فهو المعرض الأول للفنان في المنطقة والمعرض العربي الوحيد له، أراد المنظمون أيضا أن يجتمع فيه فنان من طينة الكبار المبتكرين المجددين والحالمين المجربين العصاميين حميد زناتي مع معاصريه الذين كانوا يتنافسون بجماليات الهوية والإثبات في تفاصيل الوجود المغاربي وجغرافيا الضفة الجنوبية لمتوسط الشرق.

في المعرض تتحاور الأعمال فيما بينها بجمال وتفرد، ومن بين الفنانين المشاركين نذكر، عمار فرحات، باية محي الدين، عبدالعزيز القرجي، عبدالرزاق الساحلي، علي باللاغة، محمود السهيلي، نجيب بلخوجة، نجا المهداوي، علي بن سالم، صفية فرحات وسهيلة بالبحار.

"الزواويش تزقزق فوق الشجرة" رحلة ملونة لحميد زناتي وأعماله المتنوعة التي انعكست على تفاصيل حياته وفنه
"الزواويش تزقزق فوق الشجرة" رحلة ملونة لحميد زناتي وأعماله المتنوعة التي انعكست على تفاصيل حياته وفنه

إن الأعمال المعروضة مع ممارسات زناتي الفنية ومرجعياته الأدبية والبصرية، تتكامل وتتحد مع فكرة التواصل الإنساني التي كثيرا ما حملها معه ضمن سلوكه وحياته وأساليبه الفنية المبتكرة التي نبعت من التجريد، التشخيص، النسيج، الحروفية العربية، العمارة، المشاهد الطبيعية، الفتوغرافيا والأداء، وهي التي التقت مع معاصريه من الفنانين مثل أعمال باية محي الدين، الجزائرية العالمية التي انبهر بيكاسو بأعمالها ذات التفاعل الميتافيزيقي الغرائبي من خلال الفانتازيا الأنثوية النابضة بالحياة، والتي بدورها اندمجت مع الأعمال التونسية الرائدة التي حاولت تشكيل مفهوم “التونسة البصرية” في المفاهيم والهوية والعناصر، وتنوعت فيها الأشكال والألوان والرموز والتطريزات التقليدية المزخرفة المبهجة لصفية فرحات، والتفاصيل الخطية في أعمال نجا المهداوي.

كما اندمجت مع تجربة الجزائرية سهيلة بلبحار أيقونة الفن العفوي ورائدة التجريد، ليشكل المعرض سردا متعددا للفن في شمال أفريقيا، يضيء بمجموعة مذهلة من الألوان. وهو ما حرصت عليه القيم الفني نادين نورالدين التي اعتبرت المعرض فرصة لتلاقي التجارب والعرض المتكامل بين أعمال زناتي وتجربته وأعمال معاصريه، تقول “رغم ترحاله وسفره واكتشافه مدن وثقافات العالم لم ينفصل زناتي عن أرضه ومنشئه الأول المكان الذي أثر فيه فنيا من خلال ذاكرته ومخزونه البصري الذي أسس وفقه رموزه وعلاماته وحضوره.”

كما يتضمن المعرض أيضا مجموعة من أعمال الفنان العراقي ضياء العزاوي جنبا إلى جنب مع مجموعة مختارة من المنشورات من أرشيفه، بما في ذلك كتالوجات المعارض لأعماله المتعلقة بشمال أفريقيا والعالم العربي، وتجارب ضياء العزاوي في الخزف، ورموزه الفلكلورية المؤثرة، إنها تفاصيل جمالية لتواصل حسي ونبضي وفاعلي متكامل يحيل أيضا على ممارسة زناتي الفنية ونديته التي تضاهي تجارب معاصريه وتتكامل مع أفكاره المحلقة نحو الجمال.

المعرض احتوى أيضا على تصورات جمالية للفنانة المصرية – اللبنانية دانا المصري، التي ابتكرت عطرين استوحتهما من أعمال حميد زناتي عطر “نفس” و”فرح”، يعرضان إلى جانب الذكريات والروايات التي شاركها أفراد عائلة زناتي وأصدقاؤه.

وقد أضافت هذه اللمسة جانبا حسيا لفكرة العطر التي دعمت الذاكرة بالحضور بالتماس المتفاعل بين الألوان وروائحها، فقد أضافت رؤية تجريبية لفكرة الفن والإنسانية، وتقليص المسافة بين الذاكرة والمادة، واستحضار ملامح حياة إيقاعها الألوان.

بين الفن واللغة

حميد زناتي لم يقف عند أسلوب واحد ولا قالب واحد ولا خامة واحدة كان كلا مجتمعا في تحرر منطلق
حميد زناتي لم يقف عند أسلوب واحد ولا قالب واحد ولا خامة واحدة كان كلا مجتمعا في تحرر منطلق

المعرض الذي يعتبر رؤية بصرية حسية كثيفة ممتعة، يحتاج أكثر من زيارة وتواصل بصري بين الأعمال والتجارب وبين تجربة زناتي نفسها وتفاصيلها، التي استطاعت خلق صلة بين العين والإيماءات وبين الحواس والحركات وبين التفصيل والأسطح، عمق بعيد المدى لا يوقف المتأمل – المتلقي عند حدود التجوال الاعتيادي لرؤى جمالية تجمع الفتوغرافيا بالتصميم والخزف بالنسيج، وهو أعمق من تقديم تجربة فنية لفنان ارتحل بين مدينتين ووطن حاملا ما أتقنه من لغات وحمل شرقه إلى الغرب.

نمّت ألمانيا لدى حميد زناتي التجريب وجرأة الإقدام والمبادرة الفنية، وقادته إلى الانتماء إلى اللغة البصرية الجمالية الكثيفة والأدوات التي حملت شغفه الحسي ليرسم يصور في كل شيء، ويقف عند كل تفصيل بزخم وصخب وحركة، فتجمعت لديه كل الرؤى والأحلام والأمكنة والخامات التي وقعت عليها عيناه.

 دون أن يخطط حمل الفنان ذاكرته المتداخلة في حروف اللغة العربية، في السيراميك والزخرف، في العلامات والنقوش، في الجلد والقماش، في الهندسة والخطوط، في الحرف الأمازيغي والتشكل المتماهي مع عربيته البسيطة فرنسيته الطاغية وألمانيته المتحررة، وأخذ معه الطبيعة المتنوعة للجزائر، هذه الطبيعة التي تجلى بها في الفن وخاطب بها العالم دون حدود، لغة قدمته للعالم كإنسان قبل أي احتمالات للنداءات، الكل ينصت له بحواسه الذهنية في شمولية تصوراته الصاخبة الكثيفة المنسابة وشخصيته الخفيفة الساخرة.

  لم يقف زناتي عند أسلوب واحد ولا قالب واحد ولا خامة واحدة كان كلا مجتمعا في تحرر منطلق بدأ منه وانتهى عنده، تجريدي زخرفي مصور فوتوغرافي مصمم استجمع كل ما أوتي من علامات وحملها بين القماش والسيراميك صممها في مساحات حرة راوغت الفراغات، تماهت بمرح إيقاعي متناغم وحسيات شفيفة تكاد تستنطق وعيه وشعوره المنهمر الذي قفز شقيا ماكرا عنيدا صلبا وطفلا ساكنا في ذلك النص البعيد بين ثنايا الإدراك للذاكرة القسنطينية، التي تعمدت أن تخرج “سيرتا” في كيان الفنان العاشق لهندساتها الطبيعية والثقافية والتاريخية العالقة في تكوين صورتها.

المعرض يتضمن مجموعة من أعمال الفنان العراقي ضياء العزاوي جنبا إلى جنب مع مجموعة مختارة من المنشورات من أرشيفه

يقول المصمم الفنان والقيم الفني الإنجليزي النيجيريدورو أولو “نادرا ما يلامس عمل فني مشاعرك وحواسك دون أن تكون على معرفة سابقة به، إنه التماس الأولي الذي ينتابك وأنت تشاهد أعمال حميد زناتي، موسيقية راقصة على إيقاع مختلف حر، تصاميمه ملهمة ابتكاراته رائعة، لها رنين خزفي زخرفي تحمل ألوانها الزاهية وشجنها المعلن ولكنها حيوية. رؤية مختلفة معاصرة وذات عراقة وأصالة وهوية نافذة متنوعة مرحة جدا وعميقة جدا.”

عندما يعاود التمازج الحسي ذبذباته الكهربائية مثل صدمة إلكتريك مندمج بين الجسد والروح وبين التواصل والاتصال، يظهر اللون كبرق لامع هاتف حاضر حيوي مشرق متفجر في دواخل اللوحة والأسطح التي يقع عليها فن زناتي، وكأنه يولد فيها ومعها ومنها لا توقفه التفاصيل ولا الحدود. يبتعد يرتحل يتماهى حد الفناء والحياة متجددا بتلك التفاصيل. حاول على مراحل أن يستنطق الأعمال كلها في خلود يبقيه في ذاكرة كل من تعامل معهم وتواصل معهم واشتغل معهم ومازج بينهم وبين أفكاره المجنونة بكل انطلاق.

تقول التشكيلية التجريدية الأميركية كارولين كينت “عندما شاهدت أعمال زناتي تأملتها بعمق تساءلت كيف لفكرته أن تكون عصامية بكل هذه الدقة وهذا الابتكار، إن تجريده العفوي لأفكاره جعل من الفن لغته الأساسية، وكل هذا وجدت فيه الرابط الذي أوقعني في فنه هذا التقارب التجريبي بينه وبيني في فكرة اللغة التي تحولت بي إلى جسر للغة أكثر شمولية وإنسانية فهمتها من خلاله هي اللغة البصرية لغة الفن القادرة على احتواء إنسان من معرفة من يقين من أحاسيس من ثقافات من تعبير من حرية رحلة من الذات إلى العالم نحو أفق الخلاص الكاسر لحدود المعنى.”

جسدت أعمال حميد زناتي هذه الرؤية بعمق، وقد عبرت عن حياته، ونبضت بحيويته التي تجلت في الشوارع، مستعيدة وهج الفن البصري ومعناه الإنساني.

“الزواويش تزقزق فوق الشجرة”، هي رحلة زناتي كشاهد حقيقي على عصره، وفنان عشق فنه بحرية استطاع بها تحمل هم التعبير خارج الأطر المألوفة وإثبات ذاته وخلق مساره والتأثير على تجارب متنوعة في التجريد والتصوير والتصميم.

13