المغرب يراهن على صحافة البيانات لتفكيك شبكات المصالح ومكافحة الفساد

سلطت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها في المغرب الضوء على أهمية صحافة البيانات ودورها في دعم جهودها بقدرتها على كشف التجاوزات المالية والإدارية بأساليب علمية ومنهجية، وبالتالي مكافحة الفساد وتقريب المواطن من آليات الرقابة والمحاسبة الواعية.
الرباط - يراهن المغرب على استثمار صحافة البيانات لصالح الشأن العام ومحاصرة الفساد، وأكد محمد بنعليلو رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها (مؤسسة دستورية) الاثنين أن الرهان اليوم “على الصحافيين ليكونوا جزءا من ديناميكية وطنية لا تهادن الفساد، ولا تتواطأ مع الصمت، بل تسعى إلى كشف الحقائق وتعميق النقاش العمومي.”
وبرزت صحافة البيانات كأحد أبرز أشكال الصحافة الحديثة، القادرة على تقديم محتوى استقصائي وتحقيقي يعتمد على التحليل الدقيق للبيانات بدلاً من الاكتفاء بالمصادر التقليدية. وتكتسب هذه الصحافة أهمية متزايدة في العديد من المجالات، وعلى رأسها محاربة الفساد، نظراً لقدرتها على كشف التجاوزات المالية والإدارية بأساليب علمية ومنهجية.
وأضاء بنعليلو الاثنين في كلمة له خلال دورة تدريبية للصحافيات والصحافيين حول موضوع “صحافة البيانات ودورها في مكافحة الفساد”، على التحول في الرؤية نحو دور الإعلام في ترسيخ الشفافية ومحاربة الفساد. وقال إن “هذه الصحافة تعد شكلا جديدًا من أشكال تفكيك شبكات المصالح وتتبع مسارات المال العام وبالتالي مكافحة الفساد وتقريب المواطن من آليات الرقابة والمحاسبة الواعية ومنحه أدوات الفهم والتفسير بدل تركه أسير العناوين المبهمة والأرقام الجافة.”
وأكد أن “صحافة البيانات ليست مجرد جنس صحفي تقليدي، بل هي تحوّل نوعي في آليات التتبع والتوثيق والتحليل والكتابة الصحفية،” مشيرا إلى أنها “منهجية اشتغال ترتكز على التحليل الإحصائي وتقاطع المعطيات والاستقصاء الوثائقي بالاعتماد على قواعد بيانات مفتوحة هدفها إعادة بناء المعلومة المجردة ضمن سردية صحفية قائمة على معطيات دقيقة، تُعرض في شكل قصة مدعومة بالأدلة الرقمية.”
وتقوم صحافة البيانات بتحليل ميزانيات الدولة، وصفقات الشراء العمومي، وقوائم العقود الحكومية، للكشف عن الحالات غير الطبيعية في الصرف أو التوزيع، ما يساعد في تعقب الفساد المالي. وعلى سبيل المثال قد تكشف هذه الصحافة تضخما في أسعار المناقصات أو تكرار أسماء معينة في منح العقود العمومية.
وأكد بنعليلو أن “دور الإعلام لا يقتصر على مواكبة مسار الإصلاح، بل يمتد ليصبح فاعلًا فيه، عبر مرافقة جهود مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، وإعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته،” مضيفا “إذا كنا في الهيئة مطالبين بإنتاج المؤشرات والأرقام، فنحن دون أدنى شك محتاجون أكثر إلى وسطاء مهنيين محترفين لإبلاغ الرسائل التي تحملها تلك المؤشرات والأرقام، ونقلها إلى الرأي العام بلغة واضحة، دقيقة ومسؤولة.”
وتمثل صحافة البيانات جبهة متقدمة في المعركة ضد الفساد، إذ تتيح للمواطنين والصحافيين أدوات علمية وموضوعية لتحليل الأداء العام وكشف التجاوزات. وتعزيز هذا النوع من الصحافة يتطلب دعماً تشريعياً لحرية الوصول إلى المعلومات، وتكويناً مهنياً متقدماً للصحافيين، وإرادة مجتمعية جادة لمحاربة الفساد وتحقيق العدالة والشفافية.
ولكي يكون للصحافة دورها المحوري الفعال في الكشف عن ممارسات تعمق الفساد، أكد محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، رفض التشهير والمس بالحياة الخاصة للأفراد بمن فيهم المسؤولون العموميون، وكل أشكال الابتزاز، مضيقا “بل وندين ذلك.” ولكن دون أن يعني ذلك مصادرة حق الجمهور في الإعلام والمعلومة والقبول بحق المجتمع، صحافةً وجمعيات وأفرادا وتنظيمات مختلفة، في ممارسة دوره في الرقابة على الشأن العام بما في ذلك تسليط الضوء على ممارسات وسلوكيات الفاعل العمومي كما هو متعارف عليه في الممارسات الفضلى في التجارب الديمقراطية.
وأصر محمد الغلوسي، في تصريح لـ”العرب”، على أن هذه الخطوة ستعزز المكتسبات الدستورية والحقوقية والمؤسساتية والتزامات المغرب الدولية في مجال مكافحة الفساد، وتقديم المغرب لدى المنتظم الدولي، وخاصة خبراء الأمم المتحدة في مجال مكافحة الفساد بكونه بلدا جادا وفيّا لالتزاماته في تفعيل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها وأصبحت ملزمة له.
وفي هذا الشأن أوضحت الهيئة أنه “باستقرائها للاتفاقيات ذات الصلة التي صادق عليها المغرب، وبعد استظهارها لبعض الاجتهادات القضائية الوطنية والدولية التي سارت في اتجاه اعتبار تاريخ اكتشاف جرائم الفساد ومعاينتها أو تاريخ مغادرة المشتبه فيه لوظيفته هو التاريخ المحتسب كبداية للتقادم، أوصت الهيئة بتوجيه الجهود نحو تحويلها إلى قواعد قانونية وإدراجها في قانون المسطرة الجنائية كاستثناء من القواعد العامة للتقادم.”
وذكر بنعليلو أن “مكافحة الفساد ليست شأنًا حكوميًا أو مؤسساتيًا داخليًا فقط، بل هي قضية مجتمع بكل مكوناته، تتقاطع فيها أدوار السلطات العمومية، وهيئات الحوكمة، والمجتمع المدني، وطبعا الإعلام المهني المسؤول، بما يملكه من قوة تأثير على الرأي العام، وقدرة على تحويل قضايا الفساد إلى نقاش عمومي عميق ومنتج، لا إلى مجرد زوابع سطحية أو حملات ظرفية.”
ويرى إعلاميون أن انخراط وسائل الإعلام في محاربة الفساد ومكافحته ينعكس إيجابا على المجتمع بتحقيق التنمية المنشودة وتحسين مناخ الاستثمار والأعمال، والرفع من مستوى عيش المواطنين، وتنوير الرأي العام المغربي في مجال التخليق والحوكمة والتعريف باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وكذلك الحوكمة الجيدة في الدستور التي تتأسس على النزاهة والشفافية والمساءلة كدعامات أساسية، وأيضا متابعة الالتزامات الحكومية الخاصة بمحاربة الفساد وتنزيل أهداف الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي اعتمدها المغرب للفترة ما بين 2016 و2025.
واعتبر بنعليلو أن “الممارسة الصحفية المرتكزة على البيانات تنتقل من مجرد الرصد السلبي للوقائع إلى صناعة الوعي بالمعلومة المؤسِّسة للمساءلة، وتساهم في تحويل المعطيات الرقمية إلى سلطة مضادة فاعلة، تكون بمثابة رادار مجتمعي يلتقط مظاهر الانحراف، ويعيد توجيه البوصلة نحو الإصلاح بعيدا عن مظاهر الاختلاق والإشاعة.”
وأشار محمد الغلوسي، في تصريح لـ”العرب”، إلى أن تراجع الفعل السياسي والنقاش العمومي بالمغرب جعل الصحافة والمجتمع المدني ضحية أمام تمدد الفساد، لافتاً إلى أن ضعف الأحزاب السياسية ساهم في تفاقم الوضع، وشدد على ضرورة تفعيل الآليات القانونية واتخاذ تدابير صارمة ضد المتورطين.
وتعتبر الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أن “صحافة البيانات ليست ترفًا تقنيًا، بل معركة مجتمعية دفاعًا عن الحق في المعرفة، وعن الحق في العيش في بيئة نزيهة،” وأكدت على مواكبة كل المبادرات التي تستهدف تمكين الصحافة الوطنية من أدوات تحليل البيانات ومراقبة الشأن العام، بما يعزز مكانة الإعلام كفاعل رئيسي في محاربة الفساد، لا كمجرد ناقل للخبر. وأكد بنعليلو أن الشفافية ليست مجرد شعار أو تقرير رسمي، بل يجب أن تُترجم على صفحات الصحف الجادة، وفي مضمون الإعلام المهني المسؤول، الذي يسهم في ترسيخ الحق في المعرفة ومحاربة التعتيم.