إنعام كجه جي لـ"العرب": الواقع هو ساحة الرواية لا القصائد

تُعد الروائية والصحافية العراقية إنعام كجه جي أحد أبرز الأصوات الأدبية العربية المعاصرة، والتي حفرت لنفسها مكانة مميزة في المشهد الروائي والثقافي العربي بأعمالها الروائية التي تحمل في طياتها وجع العراق وحنين المنفى وتأملات عميقة في الهوية والذاكرة. جعلت تجربتها محل تقدير العديد من الجوائز آخرها جائزة العويس الثقافية. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتبة.
مثل فوز الروائية إنعام كجه جي بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في دورتها التاسعة عشرة، تتويجًا لمسيرة إبداعية استثنائية، حيث نجحت الكاتبة في نسج سرديات تجمع بين الواقعية الحادة والخيال الشاعري، لتقدم لوحات أدبية تعكس تعقيدات التجربة الإنسانية في ظل الصراعات والتحولات.
وهذا ما أكدته لجنة منح الجائزة حيث لفتت في تقريرها إلى أن كتابات كجه جي تميزت بالقدرة على المزج بين الجانبين التوثيقي والأدبي. فقد برزت في أعمالها موضوعات الهوية والمنفى والاغتراب والتشظي النفسي والحنين الذي يعيد اكتشاف الماضي ويطرحه برؤية نقدية جديدة، وهو ما عبّرت عنه شخصيات عاشت على أطراف التاريخ ولم تجد من يروي حكاياتها، ومنها نساء واقعات في قلب الحياة، يحضرن في منجزها الأدبي بقوتهن وضعفهن ونجاحاتهن وانكساراتهن، وبكل ما يلقين من تناقضات وتحديات.
نجار وحداد
في حوارها مع “العرب” تكشف إنعام كجه جي بعض جوانب عالمها الإبداعي، وطريقة تشكيل تجربتها بين بغداد وباريس رؤيتها الأدبية، وكيف استطاعت أن تحول الوجع الشخصي والجماعي إلى سرديات تحمل الأمل والجمال.
إنعام كجه جي، المولودة في بغداد عام 1952، ليست مجرد روائية، بل هي راوية حكايات شعب، تحمل في كلماتها نبض الذاكرة العراقية وتشظي الأرواح في المنفى. بدأت مسيرتها كصحافية، حيث عملت في الإذاعة العراقية، ثم انتقلت إلى باريس لإكمال دراستها العليا في جامعة السوربون، لتصبح لاحقًا مراسلة لصحيفة “الشرق الأوسط”. هذه التجربة المزدوجة بين الصحافة والأدب أكسبتها قدرة فريدة على التقاط التفاصيل الدقيقة للواقع وتحويلها إلى سرديات إبداعية تحمل عمقًا نفسيًا وفلسفيًا.
تتميز أعمال إنعام كجه جي، مثل “سواقي القلوب” (2005) و”الحفيدة الأميركية” (2008) و”طشاري” (2013) و”النبيذة” (2019)، بإبداعها في استكشاف الإنسان العراقي وسط عواصف التاريخ. في “سواقي القلوب” تقدم رؤية شاعرية للحياة العراقية قبل التحولات الكبرى، بينما تنتقل في “الحفيدة الأميركية” إلى استكشاف الصراع بين الهوية العراقية والاغتراب في الغرب، حيث تجسد الشخصيات معاناة الشتات الثقافي بأسلوب سردي يمزج الواقع بالرمزية. أما روايتها “طشاري”، فهي رحلة عبر الزمن والمكان، تستحضر الذاكرة الجماعية للعراقيين من خلال قصص عائلية تتخللها الحروب والمنفى. وفي “النبيذة”، تعود إنعام إلى قلب بغداد لتروي قصة امرأة تحمل أحلامها وسط الخراب، مستخدمة لغة غنية بالصور البصرية والعاطفية.
إبداع إنعام يكمن في قدرتها على تحويل الألم إلى فن، إذ تأخذ القارئ في رحلة عبر طبقات التاريخ والنفس البشرية. أعمالها لا تقتصر على توثيق الواقع، بل تعيد صياغته بطريقة تجمع بين الحس الصحفي الدقيق والخيال الأدبي الخصب. لغتها، التي تمتزج فيها الشاعرية بالواقعية، تخلق عوالم حية تنبض بتفاصيل الحياة اليومية، من أسواق بغداد إلى شوارع المنفى. كما أنها تبرع في بناء شخصيات مركبة، تحمل تناقضاتها الداخلية وصراعاتها مع المجتمع، ما يجعلها مرآة لتجارب الإنسان العراقي والعربي.
تتألق إنعام في تناول قضايا جوهرية مثل: كيف تستطيع الكتابة أن تحفظ ذاكرة شعب في زمن النسيان؟ كيف يمكن للإنسان أن يجد توازنًا بين الحنين إلى الوطن وواقع المنفى؟ وما هو دور الأدب في مواجهة الخراب؟ أعمالها، التي تُرجمت إلى لغات عالمية ونالت ترشيحات لجوائز مرموقة كالبوكر العربية ونوبل للآداب، تعكس قدرتها على الحديث إلى القارئ العالمي بلغة إنسانية شاملة، دون أن تفقد خصوصيتها العراقية.
تسأل “العرب” كجه جي عن بدايتها المتأخرة نسبيًا في كتابة الرواية، وإن كانت تعتقد أن العمل الصحفي صقل نضجها الروائي، تقول “أظن أن كل شيء يأتي في أوانه. قبل الرواية كتبت في بداياتي القصص القصيرة وأول قصة منشورة لي ظهرت في مجلة ‘ألف باء’ البغدادية وأنا طالبة في الثانوية. كما نُشرت لي قصص في مجلات مصرية مثل ‘إبداع’ و’الهلال’ و’القاهرة’ و’أدب ونقد’. ثم استغرقني العمل الصحفي الذي مارسته بأشد حالات الشغف. وخلال سنوات طوال قابلت شخصيات عجيبة يمكن وصفها بالروائية وتجمعت لديّ حكايات أخذت طريقها إلى رواية أولى، ثم ثانية وثالثة، وهكذا أجد نفسي اليوم صحافية وروائية معاً. يعني نجار وحداد في ذات الوقت.”
الروايات والحنين
في جميع رواياتها هناك حضور كثيف للمنفى والحنين. نسألها كيف تؤثر الغربة على صوتها السردي؟ لتجيبنا “كما قلت لك، قابلت في سنوات هجرتي أنواعاً من المنفيين والهاربين واللاجئين، عراقيين وعربا. وتبقى موضوعة العلاقة بالوطن هي الخيط الذي ينظم خرز السرد بكل ألوانه. لم أكن منفية بل اخترت العيش في الخارج بإرادتي. عندي لحظات اشتياقي وحنيني وأبقى الغريبة في البلد الغريب ولو بعد أربعين عاماً.”
أما عن منبع قصصها، إن كانت من الذاكرة الشخصية أم من وثائق وتجارب الآخرين، فتشدد على أنه من الإثنين. تقول “عندنا في العراق نهران كبيران هما دجلة والفرات ويلتقيان في منطقة تدعى القرنة. لعل رواياتي هي تلك المنطقة.” في “الحفيدة الأميركية” تحدثت الكاتبة عن عراق ما بعد الاحتلال بعيون منقسمة بين الوطن والمنفى. حول هذا التوتر وتعاملها معه تقول “حاولت تصويره مثلما كان حاصلاً في الواقع. عراقيون أيدوا الاحتلال وعراقيون رفضوه. وكعادتي استفدت من تجارب شخصيات حقيقية وأضفيت عليها ما أتيح لي وقتها من خيال.”
“طشّاري” كانت رواية عن التمزق والشتات العائلي. نسألها هل تمثل الرواية تعبيرًا عن واقع جيلها الشخصي؟ لتبيّن “هي سيرة طبيبة اضطرت إلى الهجرة بعد بلوغها سن الشيخوخة. ولو أجرينا مسحاً ميدانياً في دول اللجوء لعثرنا على المئات من أمثال الدكتورة وردية إسكندر. وهو تشتت لا يخص العراقيين فحسب بل قال لي قراء سوريون وفلسطينيون ولبنانيون إنهم وجدوا أنفسهم في الرواية.”
تمزج رواية “النبيذة” بين السياسة والصحافة والأنوثة. نتطرق مع الكاتبة العراقية إلى ما ألهمها لكتابة شخصية تاج الملوك عبدالمجيد، لتقر بأن شخصيتها قادرة على إلهام أكثر الروائيين كسلاً وبلادة. هي امرأة من الشرق عاشت أكثر من حياة في أكثر من بلد. كانت العاشقة والمعشوقة وخاضت مغامرات عاطفية وسياسية وعقائدية وحافظت على روحها حرة نقية.
◙ الكاتبة استفادت في رواياتها من تجربتها بين الصحافة والأدب ومن تجارب شخصيات حقيقية أضفت عليها من خيالها
في “لورنا، سنواتها مع جواد سليم”، عادت كجه جي إلى السيرة، وهي تعتبر أن شخصية لورنا هي حجة للحديث عن زوجها جواد سليم، النحات العراقي الرائد الذي ترك لنا “نصب الحرية” أشهر معالم بغداد. نحن نعرفه من الخارج، وكان كتاب لورنا مناسبة للتسلل إلى حياته الاجتماعية وأسراره وهواجسه وهواياته ولحظات ضعفه وحتى جنونه.
وتتحدث الكاتبة لـ”العرب” عما يميّز “سواقي القلوب” عن باقي رواياتها، تقول “لم تتعبني في الكتابة وهبطت بسلاسة على شاشة حاسوبي. أردت أن أتحدى نفسي بترك القلم والورقة والكتابة مباشرة على الكومبيوتر. نقرتها بإصبع واحدة وما زلت حتى اليوم أكتب على لوحة المفاتيح بإصبع واحدة. ‘السواقي’ روايتي الأولى وفيها الكثير مني.”
كتابات كجه جي تحمل نبرة شاعرية رغم واقعية الموضوعات. نسألها هل تهتمين بتشكيل الجملة كما تهتمين بالفكرة؟ لتجيبنا “الشعر هو الحب الأول للعراقيين. ولا أدري ماذا تقصد بتشكيل الجملة لكنني أهتم بلغة واضحة سليمة تعبر عن الفكرة بيسر، دون تهويمات. الواقع هو ساحة الرواية لا القصائد.” من ناحية أخرى تشدد على أن ما يعتبره بعضهم لغة محكية في أعمالها نجد له أصلاً في المعاجم. وهي لا تلجأ إلى العامية إلا في اقتباسها من الأغاني أو من الشتائم. ودائما ما تجعلها مفهومة من السياق لقارئ غير عراقيّ.
وترفض كجه جي تصنيف نفسها كاتبة عراقية فقط أو كاتبة عربية عابرة للهويات، قائلة “لن أتركك تستدرجني إلى مديح الذات.” أما عن الصحافة التي تشكل جزءًا من كيانها رغم تكثف الكتابة الروائية، فتقول “هناك مسلسل مصري جميل يظهر فيه عبدالرحمن أبوزهرة في دور بائع شاي في مؤسسة صحفية كبيرة. وحين يقررون الاستغناء عن خدماته بسبب كبر سنه يصيح فيهم: دي الصحافة في دمي!“
عاشت الكاتبة العراقية في باريس لأكثر من أربعة عقود. نسألها كيف تصف علاقة المنفى بزمنها الشخصي والإبداعي؟ لترد باستغراب “وهل باريس منفى؟ حرام عليك يا رجل. لكن هذه المدينة العظيمة لا يمكن لها أن تكون وطني. جئتها في العقد الثالث من عمري تاركة زمن طفولتي وصباي وهواي هناك في مسقط رأسي.
أما إن كانت الكتابة في المنفى أكثر حرية؟ أو أن الحنين يعقّدها أكثر مما يحررها؟ تقول إنعام كجه جي لـ”العرب”: “أكرر أنني لم أكن منفية. أي حرية؟ في الرواية. نعم، أؤمن أنني حرة في الكتابة الأدبية. أما في الصحافة فما زال هناك رقيب صغير مزعج في رأسي طالما أنني أراسل صحفاً عربية. أتحايل عليه وأظن أننا توصلنا إلى معاهدة حسن جوار بعد كل هذه السنين من العيش المشترك.”