نعم، نحن في كأس العالم… لجمع الفضلات!

لم أسْعَد بخبرٍ منذ زمن طويل كما أسعدني خبر قرأت فيه أن شبابًا تونسيين تأهلوا إلى نهائيات كأس العالم لجمع الفضلات. نعم، لم أخطئ، ولا أنت قرأت خطأ. هناك بطولة عالمية حقيقية تُقام في اليابان، تُدعى “سبوغومي”، يتنافس فيها المشاركون على من يجمع أكبر كمية من النفايات في وقت محدد، ومن منطقة لا تتعدى كيلومترًا واحدًا.
وقد فرحتُ لهذا الخبر كما يفرح مشجع متعطّش بعد هدف في الدقيقة 90، أو كأنّي استعدت لحظة وضعت فيها أمّة بكاملها قدمًا في كأس العالم لكرة القدم. غير أن هذا الهدف كان مختلفًا تمامًا: لا يُسجل بالقدم بل باليد، ولا يحتفل به بالصراخ، بل بابتسامة خجولة فوق رصيف نظيف.
عندما زرت تونس لأول مرة سنة 2000، كنت قادمًا من لندن، مسلّحًا بعيون زائر يرى كل شيء للمرة الأولى. وكانت المفاجأة: النظافة. نعم، نظافة مُبهِرة بمعايير مدن الجنوب. شوارع العاصمة تُغسل بالماء كل مساء، الأرصفة خالية من القاذورات، لا وجود لأكياس بلاستيكية تتطاير في الأحياء، ولا قوارير مشروبات معدنية تقفز من مزبلة إلى حافة الطريق. حتى الطرقات السريعة، خُصّصت لها فرقٌ من عمال النظافة يرفعون الفضلات من جوانبها بهدوء يشبه التأمل.
من شرفة الفندق في حلق الوادي، رأيت صباحًا شبّانًا ينزلون إلى الشاطئ بعد الفجر، يلتقطون ما خلّفه المستحمّون بالأمس. كان ذلك أشبه بطقس مدنيّ يومي، دافئ ومفعم بالإحساس بالمسؤولية، بلا حاجة لأي كاميرا توثّق أو منشور يُصفق.
لكن، كما يحدث في الكثير من القصص التي تبدأ بنعومة، جاءت انعطافة. بعد أحداث “الربيع التونسي”، ومع ارتباك الفضاء العام واختلال أولويات الحكومات المتعاقبة، تراجعت النظافة. تغيّرت العلاقة مع الشارع. وتحت راية حريةٍ حديثة، اختفى حسّ المسؤولية الجماعية. لم يعد الزائر اليوم يُدهش لما يراه في الشارع، كما دهشتُ قبل ربع قرن. بالعكس، قد يُصاب بخيبة من منظر الأوساخ المتراكمة، أو من أكياس البلاستيك التي ترقص فوق الرصيف بلا دعوة.
وسط هذا الإحباط البيئي، يأتيني خبر صغير لكنه مشعّ: شباب تونسيون فازوا بتصفيات محلية وتأهلوا لنهائيات كأس العالم لجمع الفضلات التي ستُقام في طوكيو. وأن تصفياتهم جرت في شارع الحبيب بورقيبة، قلب العاصمة الرمزي.
صباح أحدٍ نظيف تنافس 18 فريقًا في جو وديّ على جمع أكبر قدر من النفايات خلال ساعة واحدة!
فكرة عبقرية… تُحوّل القبح إلى بطولة، والتراخي إلى حافز.
الأهم؟ أن هذا الحدث الصغير أعاد إلى السطح تلك الفكرة التي كادت تُنسى: أن النظافة ليست ترفًا أو رفاهًا، بل سلوك تعبدي وهوية حضارية. كم مرة نسينا أن الإسلام نفسه رفع من شأن الطهور وجعله “شطر الإيمان”، وأن “إماطة الأذى عن الطريق” صدقة؟ يبدو أن كأس اليابان ذكرنا بما نسيناه على أبواب البيت.
لست من هواة التشجيع الهتافي. لكنني، بصراحة، أجد نفسي متحمسًا لفريق الفضلات التونسي أكثر مما تحمّست لبعض المنتخبات الرياضية. لأن ما يفعلونه، رغم بساطته، يحمل قيمة رمزية عالية. أن تحوّل الشارع إلى ساحة بطولة، وتُعيد للنظافة مكانتها كممارسة يومية، هو بحد ذاته انتصار.