التشكيلي اللبناني مروان العريضي يحاكي من الرياض الشرق الساحر بزخرفاته

للحضارة العربية منجز راسخ في عالم الزخرفة والخط، فيهما ما تزال طاقة الخلق والإبداع عابرة للأزمان، مثيرة للحواس. واليوم هناك من الفنانين العرب من اختار مواصلة رحلة أسلافهم في إيقاظ الروح البشرية والسمو بها إلى رحلة جمالية مبهرة، ولو بأساليب جديدة مبتكرة، على غرار ما يقدمه الفنان اللبناني مروان العريضي.
قريبا من مكتبة الملك فهد الوطنية، وبين ثنايا التفاصيل الحسية التي قد تعيد الصفحات وكتبها من ثناياها بين التاريخ المكتوب والتاريخ المصوّر على شكل ألوان من عبق وتكامل يشعّ بين الفراغات كصمت موحي بعمق التعابير، يقع غاليري “مرسمي” الذي أشرق بتفاصيل زخرفية، تخطف أنظار العابرين من واقعهم إلى أزمنة التلون الزخرفي والتكاثف الهندسي والحروفيات الساطعة من وحي الحضارة الإسلامية التي تغري جماليا كل من يلمح رؤاها وتصوراتها.
في هذا الغاليري قدم الفنان التشكيلي اللبناني المغترب في الولايات المتحدة الأميركية مروان العريضي معرضه الذي لاقى الإقبال وتلاقى مع الزائرين بمحبة وتواصل وتحاور.
اتصال حسي
مروان العريضي اسم يسبقه فنه وحضور يسافر بك على بساط اللون والجمال نحو روح الحضارة الإسلامية وتميّزها الفني حرفا هندسة وزخرفا، المعرض امتد حتى نهاية شهر مايو، لم يكن إلا اختزالا حسيا وذهنيا لتجربة عميقة قدّم فيها العريضي خلاصة بحوثه وتجريبه ووقوعه في بحور المعاني والألوان وصحراء التيه والارتحال عبر المدن القديمة والتفاصيل الدقيقة للزخرفة والعمارة والعادات.
أعمال الفنان تؤكد الانتماء لطبع العناد الجمالي المتنوع للشرق، حيث تشكّلات الطبيعة واختلافاتها بين صحار وجبال وسهول، وحيث تشكيلات الآداب والفنون، كلها تفاصيل ابتدعها وطوّرها وانغمس فيها برؤاه التي نهلت من مدارس الخط والزخرفات والحروفيات والفنون الشرقية والغربية، حتى أثبتت أن الفن ابتكار هوية مطبوعة ثابتة وتحرّر انتماء للكون.
يحمل التجوّل بين أعمال العريضي تفاصيل سفر مدهشة بين الأزمنة، التشكيل فيها اتصال حواسي وانغماس في تلقائية التصورات المألوفة ولكنها مندفعة بجمالها اللامألوف، راقية ورقيقة وعابرة لفضائها، تهمهم في سرّها الموحي بجدل التاريخ الباقي وصراعاته الموثّقة في ثنايا الكتب وقصص المؤرخين، ورغم كل ذلك تُنشد موشحاتها بين تكوّنات الزخرفات، لا يوقفها الوقع في أحداث الجذب والشدّ بل يحرّكها الإيقاع في منافسات الجمال الباقي.
مروان العريضي اسم يسبقه فنه وحضور يسافر بك على بساط اللون والجمال نحو روح الحضارة الإسلامية وتميّزها الفني
تلك الصنعة التي حافظ عليها العريضي لإثبات الهوية، وتصالح الذاكرة مع انتماءاتها، ابتكر منها تصوراته الحديثة المعاصرة لينتقل مع المتلقي جيلا عبر جيل مترنّما بشاعرية القصيد، يحمل ارتكازا إيمانيا مبنيا على قدسية النص القرآني بثبات حكيم وحركة موصولة باللون وحكمته العابرة نحو تفاصيلها لا تعترف بالجغرافيا إلا ثقافة وتنوّعا، ولا تقف عند اختلاف أو خلاف إلا لمحاكاة الجمال في تصعيد يُبرز اندماج الذات للحضور والتكوّن والانطلاق، للسقوط والنهضة، حيث يتجلى التاريخ الإسلامي بملامحه مفصّلا بنعومة محكيا بترتيل، موحيا بالتغيير.
وأنت تتأمل أعمال العريضي قد لا يحملك التساؤل عن الخامة أو قد لا تهتم لتعرف تفاصيل الزخرفة وابتداع الشكل والعلامة، لن تسأل كيف حفر تلك التجاويف الدقيقة بينها ليحاكي الطبيعة والزخرفة وينبتها ويستعيد مواسمها طبيعتها، لأن الدهشة وحدها تسافر بك طوعا نحو أمكنة من حرير وبُسط وقصص من قصور ومعالم ومدن وعمارة، من تفاصيل وحضارات، من تنوع بعبق بغداد، دمشق، المغرب العربي أو الأندلس، بلاد فارس، طشقند، لا توقف عن السفر وعن الارتحال بعين من شغف وتأمل من سحر وانطلاق بلا حدود بين عمل وعمل.
المتلقي لأعمال العريضي لا يمهل نفسه وقتا لانتظار دعوة على تجوال أو سفر ولا لطرح الأسئلة الأسلوبية، هو مسافر زاده الشغف والأخيلة التي تجتاح وقع الخط الكثيف والكلمات التي تتجاوز المعنى إلى المعاني، حسيّات عالية تغوص في فضائها تحيك قصصها تتماثل عبر وحي التصميم في بناء يتصاعد ويتداخل معه الجانب الشعوري، يدرك معنى التوافق بين لحظة وإيقاع وبين صمت واشتغال على المعنى الفني.
التنوع الثقافي
ساعد التنوع الثقافي الذي اكتسبه العريضي من لبنان وتتلمذه على يد الشيخ نسيب مكارم ليتقن الحرف والخط وعمقه، وتكامل به مع انتقالاته وإصراره على تطوير مفهوم اندماجه وتعايشه مع الآخر وتلقي ثقافات جديدة والتماهي الجمالي معها، فقد ساعده انتقاله إلى الولايات المتحدة في السبعينات على دراسة الفنون والتصميم والزخرفة منذ الحضارات القديمة حتى الحديثة، ما مكنه من اكتساب تقنياته العالية وأسلوبه المتفرّد وتفاصيله الغارقة في الدهشة والحضور والتناسق، لونا وخطا شكلا وحجما امتلاء وفراغا ومعنى ومفهوما وعلامة ورمزا مقصدا واقتفاء لأثر الجمال. كما أكسبه عمله مع شركات عالمية مثل مايكروسوفت لتطوير خطوط عربية رقمية تمكّنا من التقنيات الرقمية والتصميم.
للعريضي عدّة منجزات مهمة وابتكارية في فنون الحروف والزخرفة فأحد أبرز إنجازاته هو مصحف فني فريد من نوعه، استغرق إنجازه 10 سنوات، صمّم زخرفيا كل سورة من السور الـ114 بشكل واحتواء وتلق خاص بها، ومزج بين تفاصيل السور ومعانيها وروحانياتها، ما يؤكد اندماجه فيها، فكانت تشكلات حركية متجدّدة وحركة لا تهدأ في دورانها بين الأرض والسماء، مستوحاة من الفنون الإسلامية عبر العصور: الأموي، العباسي، الأندلسي، العثماني، والفارسي.
أما المصحف فمطبوع على ورق قطني خالٍ من المواد الكيميائية، غلافه من الجلد الطبيعي مزخرف بالذهب الصافي.
وفي كتابه “فن الزخرفة الشرقية” قدّم 186 لوحة زخرفية و334 زخرفة إضافية استعرض فيها تطور الزخرفة الإسلامية عبر العصور، وعرض كيفية تصميم كل سورة من سور القرآن الكريم بشكل فني وأبعاد متوافقة مع مقاييس البحث مفهوميا وبنيويا.