"الفراشة".. مغامرة هنري شاريير الحقيقية هاربا من أعتى السجون

رواية عن صمود الروح الإنسانية والإرادة القوية للحياة.
الأربعاء 2025/06/18
حكاية رجل تشبه الملحمة

تظل رواية "الفراشة" لهنري شاريير عملا أدبيا مهما ومثيرا للجدل في آن واحد. فعلى الرغم من الشكوك الكبيرة التي أثيرت حول مدى صحة الأحداث المروية فيها، إلا أن شعبيتها الهائلة وتأثيرها الثقافي لا يمكن إنكارهما. وهذا جلي في اهتمام السينما بها، بينما لا تزال تطرح نقاشا حول أهمية الصدق في الكتابة.

استحوذت قصة بطل رواية "الفراشة" بابيون عن الصمود في وجه الظلم والسعي الدؤوب للحرية على قلوب الملايين من القراء حول العالم، خاصة أنها ترجمت إلى 27  لغة، وتم تحويلها إلى أكثر من عمل سينمائي أولها عام 1973 من إخراج فرانكلين شافنير، وبرؤية مغايرة أخرجها مايكل نوير عام  2018.

الرواية التي ترجمها حسين عمر وصدرت عن دار المدى بمقدمة نشرها جان بيير كاستيلنو، ودراسة في الختام بقلم الناقد جان فرانسوا ريفيل، تدور أحداثها حول بابيون/ هنري شاريير، الذي لُقب بـ”الفراشة” بسبب وشم على صدره على شكل فراشة، والذي أُدين خطأً بتهمة القتل العمد لقواد في باريس عام 1931 وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة وإرساله إلى “كايين” تلك المستعمرة العقابية سيئة السمعة في غويانا الفرنسية.

بعد ثلاث سنوات، هرب من السجن، ووصل إلى مستعمرة للمجذومين، ثم أبحر على متن قارب إلى خليج ماراكايبو وعبر الأنهار سيرا على الأقدام، وشق طريقه عبر الأدغال، وعبر مع رفيقين أكثر من ألف ميل في منطقة البحر الكاريبي على متن قارب مكشوف، وعاش بين هنود الغابة، لكن قُبض عليه، وأرسل إلى جزيرة الشيطان وبقي هناك لمدة عامين في الحبس الانفرادي.

مغامرات الهروب

سبع مرات يتمكن بابيون من الهروب ما بين عام 1933 وعام 1945، الأمر الذي جعله ينتقل من سجن إلى آخر، ونجح في محاولته الثامنة من خلال التجديف عبر بحر مليء بأسماك القرش على طوف مصنوع من جوز الهند المجفف. وجد ملجأ في فنزويلا، نظرا إلى عدم وجود معاهدة تسليم مطلوبين بين فنزويلا مع فرنسا، وعمل كمنقب عن الذهب، ومنقب عن النفط، وتاجر لؤلؤ، وقام بأعمال غريبة أخرى قبل أن يستقر في كاراكاس، ويتزوج، ويفتتح مطعما، ويصبح مواطنا فنزويليا.

في سن الثانية والستين، عثر شاريير على روايات ألبيرتين سارازان، وهي مومس وسجينة سابقة، وبدافع من حظها الأدبي الجيد، حققت أعمالها انتشارا واسعا. قرر شاريير أن يفعل مثلها بكتابة محنته الخاصة. وفي غضون بضعة أشهر، ملأ 13 دفترًا بسيرته بدءا باتهامه ظلما بالقتل العمد والحكم عليه ثم حياته في السجن أو بمعنى أدق السجون التي تنقل بينها انتهاء بنجاحه في الهروب. وأرسلها إلى ناشر باريسي، الذي تحمس للمخطوطة.

اh

يُركز شاريير في سرده على سعيه الدؤوب نحو الحرية ومحاولاته العديدة والجريئة للهروب. تتخلل هذه المحاولات علاقة صداقة قوية تنشأ بينه وبين سجين آخر يُدعى لويس ديغا. ويصف الظروف القاسية التي يعيشها السجناء في المستعمرة العقابية والطريقة الوحشية التي يعاملون بها.

إن تأكيد شاريير المتكرر على الإدانة الخاطئة وإصراره على براءته، يُنشئ سردًا واضحا للظلم يتردد صداه في التفاصيل. إن موضوع “الروح التي لا تقهر” واللقب الرمزي “الفراشة” الذي يمثل التصميم والإرادة للتحرر أساسيان لفهم شخصيته في الرواية.

تستكشف الرواية عددا من الموضوعات الرئيسية أبرزها صمود الروح الإنسانية والإرادة القوية للبقاء على قيد الحياة في وجه الظروف القاسية. يظهر هذا الموضوع بوضوح في محاولات بابيون المتكررة للهروب ورفضه الاستسلام لظروف السجن اللاإنسانية. كما تُقدم الرواية نقدا لاذعا لنظام العقوبات الفرنسي في ذلك الوقت، حيث تُسلط الضوء على التعامل القمعي والوحشي الذي يتعرض له السجناء. لكن على الرغم من البيئة القاتمة للسجن، تُعد الصداقة والولاء والتآزر بين السجناء موضوعا مهما آخر في الرواية، حيث تشكل الروابط العميقة التي يقيمها بابيون مع زملائه السجناء عاملا حاسما في بقائه على قيد الحياة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سعي بابيون للحرية لا يتعلق فقط بالهروب الجسدي، بل أيضا باستعادة هويته وتبرئة اسمه من الإدانة الظالمة.

تتطرق الرواية أيضا إلى المنطقة الرمادية أخلاقيا في شخصية بابيون، حيث إنه مجرم مدان، وغالبًا ما تكون أساليبه موضع شك أخلاقي، لكن رحلته نحو الحرية يمكن اعتبارها أيضا بحثا عن الخلاص واستعادة إنسانيته في عالم يسعى إلى تجريده منها.

في مقدمته يحكي ناشر الرواية جان بيير كاستيلنو، قصة كتابة الرواية، يقول “من دون شكّ، ما كان لهذا الكتاب أن يظهر لو لم يسمع رجل في الستين من عمره، في يوليو من عام 1967، في صحف كاراكاس، بعد عامٍ من الزلزال الذي دمّر المدينة، الناسَ يتحدّثون عن ألبيرتين سارازان. كانت هذه الجوهرة السوداء النابضة بالألق والفرح والشجاعة قد ماتت حديثاً، وهي التي اشتهرت في العالم أجمع بنشرها، خلال أكثر من عامٍ بقليل، ثلاثة كتب تروي في اثنين منها حكاية هروبها من السجون وإعادتها إليها.”

في رواية "الفراشة"، الكتابة هي بديل الكلام وليست تجاوزا له أو تحويلا فيه كما هو الحال في الأدب المتحذلق

ويضيف “هذا الرجل يُدعى هنري شاريير، وكان يعود من بعيد. يعود بالتحديد من سجن كايين للأشغال الشاقّة، الذي كان قد صعد إليه في عام 1933، خارجا على القانون نعم، ومُدانا، ولكن بتهمة جريمة قتل لم يرتكبها، ومحكوما بالسجن المؤبّد، أي حتى لحظة وفاته. هنري شاريير، الذي كان يُدعى بابيون ـ سابقا ـ في الوسط الإجرامي، وُلِد فرنسيا في كنف عائلة من المعلّمين في بلدة آرديش، ولكنّه أصبح فيما بعد فنزويليا، لأنّ الشعب الفنزويلي فضّل أسلوبه في حبّ الحياة على سجلّه الجنائي ولأنّ ثلاثة عشر عاما من الفرار والكفاح من أجل النجاة من جحيم سجن الأشغال الشاقّة كفيلة بأن ترسم مستقبلا لا ماضيا.”

ويتابع “إذاً، في يوليو 1967، ذهب شاريير إلى المكتبة الفرنسية في كاراكاس واشترى رواية ‘الكاحل’. كان يوجد على شريط الكتاب رقمٌ: 123000. قرأ الرقم وقال في نفسه، بكلّ بساطة ‘هذا جميل، ولكن إذا كانت الفتاة، بعظمها المكسور، المتنقّلة من مخبأ إلى آخر، قد باعت مئة وثلاثة وعشرين ألف كتاب، فأنا، بفضل سنواتي الثلاثين من المغامرات، سأبيع ثلاثة أضعافها’. إنه استنتاج منطقي ولكن لا يعود المرء خطيرا، منذ نجاح ألبيرتين من بين آخرين، وهو يَملأُ طاولات الناشرين بعشرات المخطوطات من دون أمل. لأنّ المغامرة والبؤس والظلم مهما بلغت شدّتها لا تصنع بالضرورة كتابا، بل ينبغي أن يجيد المرء كتابتها، أي أن يمتلك هذه الموهبة التي تجعل القارئ يرى ويشعر ويعيش، في داخله، كلّ ما رآه وشعر به وعاشه مَنْ كتب العمل. وهاهُنا، كان لشاريير حظ كبير.”

يذكر كاستيلنو أن شاريير لم يفكر لمرة واحدة أن يكتب سطرا واحدا عن مغامراته: إنه رجل أفعال وحياة ودفء، وفي عينه الماكرة عاصفة عاتية، وذو صوت جنوبي دافئ وخشن بعض الشيء والذي يمكننا الإصغاء إليه لساعات طويلة لأنّه يروي مثل أي شخص، أي مثل كل الرواة العظام. وتحدث المعجزة: ما يكتبه خال من أي اتصال ومن أي طموح أدبيين. يقول “لقد كتب لي ‘أرسل إليك مغامراتي، دع محترفا يكتبها’، ما يكتبه هو ‘مثلما يرويه لك’ نراه ونشعر به ونعيشه. وإذا ما أراد القارئ، لا سمح الله، أن يتوقف عند أسفل صفحة في حين هو يروي أنه في طريقه للذهاب إلى المراحيض (المكان الذي يؤدي دورا متعددا ومهما في سجن الأشغال الشاقة)، يضطر القارئ إلى أن يقلب الصفحة لأنه لا يعود هو من يذهب إلى المراحيض وإنما القارئ بنفسه.”

البراءة الماكرة

الرواية تتطرق إلى المنطقة الرمادية أخلاقيا في شخصية بابيون، حيث إنه مجرم مدان، وغالبًا ما تكون أساليبه موضع شك أخلاقي

يلفت كاستيلنو إلى أن “بعد ثلاثة أيام من قراءة رواية ‘الكاحل’، كتب شاريير أول دفترين دفعة واحدة، وهي دفاتر على شكل كراريس مدرسية، لها نوابض حلزونية. وفي الوقت اللازم لجمع رأي أو رأيين حول هذه المغامرة الجديدة، والتي ربما هي أكثر دهشة له من كل ما عداها، انكب على ما تبقى في بداية عام 1968، وخلال شهرين أنهى الدفاتر الثلاثة عشر. ومثلما وصلت إلى ألبيرتين، وصلت مخطوطته إليّ بواسطة البريد في شهر سبتمبر. بعد مضي ثلاثة أسابيع. مع جان جاك بوفيه كنا قد أطلقنا كتاب ألبيرتين، وسلمني شاريير كتابه.”

ويوضح أن هذا الكتاب المكتوب على وقع ذكريات مازالت متقدة، والمنسوخ على الآلة الكاتبة من قبل سيدات متحمسات ومتقلبات ولسن فرنسيات دائما، لم أعبث به إن جاز التعبير. لم أفعل سوى إعادة وضع علامات الترقيم وتبديل بعض الاصطلاحات الإسبانية الغامضة جدا وتصحيح بعض الالتباسات في المعنى وبعض الانعكاسات العائدة إلى الممارسة اليومية في كاركاس، لثلاث أو أربع لغات تعلمها السكان شفويا.

يقول كاستيلنو حول صحة الكتاب وأصالة ما ورد فيه من حقائق شكك فيها البعض “أنا أضمنه في ما يخص جوهره، لقد جاء شاريير إلى باري مرتين، وتحدثنا مطولا. تحدثنا لأيام وبعض الليالي أيضا. من الواضح أن بعض التفاصيل، بعد مضي ثلاثين عاما، قد تلاشت، أو عدلت من خلال الذاكرة، ولا يمكن إهمال هذه التفاصيل. أما بالنسبة إلى الجوهر، فليس علينا سوى الرجوع إلى عمل البروفيسور ديفيز كايين (منشورات جوليار 1965) للتأكد مباشرة من أن شاريير لم يتناول عادات السجن، ولا أهواله، بل على العكس تماما.”

ويضيف “من حيث المبدأ، غيرنا أسماء كل السجناء والحراس وقادة إدارة السجون، فهذا الكتاب لا يقصد النيل من أشخاص، وإنما يهدف إلى وصف نماذج معينة في مجتمع معين. وكذلك الحال بالنسبة إلى التواريخ: فبعضها دقيق، في حين أن بعضها الآخر تقريبي. وهذا كاف لتحقيق الغرض، لأن شاريير لم يشأ أن يكتب تاريخا، وإنما أراد أن يروي حكاية، بقسوة وإيمان بنفسه، تشبه الملحمة الخارقة لرجل لا يوافق على أن يكون هناك تفاوت مفرط بين الحاجة المفهومة لمجتمع إلى حماية نفسه من أشراره ونظام قمع غير لائق بأمة متحضرة.”

الرواية تستكشف عددا من الموضوعات الرئيسية أبرزها التشبث بالحرية وبذل كل الجهود لنيلها ونبذ الظلم والقمع

أما الناقد جان فرانسوا ريفيل أحد أوائل قراء الرواية، فقد رأى في دراسته التي عنونها بـ”الفراشة أو الأدب الشفوي”، أن النص الذي يكون في آن واحد سرديا وليس وثائقيا، موضوعيا وشعريا، منسوجا من الذاكرة أو من الخيال (لأنه في هذه الحالة الفرق غير مهم) لا يستطيع أن يعود إلى الظهور من الآن فصاعدا إلا بطريقة متقطعة، وعلى فترات متباعدة، في بعض الكتب الاستثنائية التي لا يمكن التنبؤ بها، وخارج التاريخ، وغير قادرة على أن تحفز أو توفر، دون شك، قوة الاستحضار البصري والوقائعي، ولا تزييفه على مستوى اللغة، التي تتمتع بنوع من الإعفاء الذي يسمح بتحدي المدارس والاتجاهات الأدبية ـ ودون معرفة ذلك بكل تأكيد. مما لا شك فيه، لا نجد في هذه الحالة الكتابة إلا لعدم امتلاكها أبدا، أو اللغة لامتلاكها دائما. لأن الأمر يتعلق هنا في الواقع باللغة، أعني اللغة الشفوية، وليست الكتابة.

ويشدد على أن في رواية “الفراشة”، الكتابة هي بديل الكلام، هي ليست تجاوزا له أو تحويلا فيه كما هو الحال في الأدب المتحذلق. القوة السردية عند شاريير تندرج في الأدب الشفوي، الذي لا يصبح أدبا إلا من خلال ضرورة “تدوين” السرد لكي لا يضيع. ولكن الإيقاع العميق للمفهوم وللتعبير هو إيقاع الفعل وهذا هو ما يجب أن نسعى إلى إيجاده أثناء قراءة الرواية، تماما مثلما نقرأ مدونة موسيقية، ليس لها هدف بذاته، وإنما وسيلة لإعادة تشكيل وتحقيق المادة الموسيقية برمتها.

ويضيف “في الحقيقة لم ينتابني قط إحساس مبهر كهذا بالفرق بين اللغة الفرنسية المكتوبة والفرنسية المحكية إلا من خلال قراءة رواية ‘الفراشة’. يتعلق الأمر بالفعل بلغتين مختلفتين. لا من حيث استخدام اللغة العامية أو مفردات مألوفة بل من حيث التباينات الجوهرية في التركيب، والصيغ، والشحنة الانفعالية للكلمات.”

ويواصل ريفيل “إن إعادة تشكيل الصياغات الأدبية للغة المحكية، عند سيلين، مثلا، تعاني بالتحديد من افتقارها إلى سمة العفوية والتلقائية. ومن جانب آخر، من النادر جدا أن تتمكن اللغة الفرنسية المحكية، من دون تلاعب وتحايل، من الوصول إلى عمل أدبي ناجز. أمام صفحة الكتابة، تعتقد العبقرية الشعبية بشكل عام أنها مرغمة على استدعاء بعض النتف التي تعرفها من اللغة الفرنسية الأدبية. فتخسر على الجانبين. (وهذه يطلق عليها بخبث اسم ‘الروايات العصامية’). ولتجاوز هذا الحاجز المخيف ـ الثقافة المكتوبة ـ دون إدراك لذلك، ومن خلال الاحتفاظ بعموم مصادره السردية، مثلما كان يتحدث المرء، لا بد من هذه البرءاة الماكرة التي كانت للرسام دوانيه روسو، والتي امتلكتها رواية “الفراشة” الراوي الذي يجلس تحت شجرة البطم.”

13