موائد الجميع تتسع لطبق الكسكس

تاريخيا يعتبر الكسكس طبقا أمازيغيا بامتياز، يصنع من القمح، ويقدم في عدة أذواق وأشكال، وعادة ما يكون من نصيب الضيوف، للدلالة على الترحيب والكرم، لكن حاضرا لم يأخذ حقه من التثمين والتسويق اللازمين، فهو في حاجة لأن تعرفه الإنسانية كختم خاص بالمنطقة.
الباحث في تاريخ منطقة شمال أفريقيا إلى غاية الساحل الأفريقي سيعثر على طبق الكسكس كوجبة شعبية إذا كان طبقا عاديا، وكوجبة نخبوية إذا أضيف إليه اللحم، وفي العادة يقدم الأول لأفراد العائلة في الأيام العادية، ويقدم الثاني في المناسبات والأعياد والأفراح.
ويشترك في هذا الطبق كل سكان المنطقة المذكورة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، حتى وإن اختلفت الأذواق والأشكال والوصفات والبهارات، التي تتعدد وتختلف من بلدة إلى أخرى ومن حاضرة إلى أخرى، فمهما كان المرافق الذي يقدم به، يبقى الأصل هو حبات الكسكس، التي تنتج في الغالب من القمح بوسائل تقليدية أو عصرية.
الكسكس في المخيال الشعبي بالمنطقة هو أكثر من طبق غذائي، بل رمزية خاصة ومقام مميز، يوحي بمكانة المناسبة أو هيبة الشخص الذي يستهلكه، ولذلك ترافقه زغاريد العجائز عند الإعداد، احتفاء بهذا الضيف الذي سيحتفي بدوره بالضيوف والزوار.
إلى أبد الآبدين، سيبقى الكسكس جزءا من هوية المنطقة الممتدة من ليبيا إلى غاية موريتانيا، لكن خاصيته الخالدة هي تجاوزه للحدود الجغرافية والسياسية، فهو على صلة مباشرة بالسكان المرتبطين ببعضهم البعض، فيمكن للموريتاني أن يطلب طبق الكسكس في ليبيا، وكذلك الجزائري في المغرب، والمغربي في تونس، دون أن يشعروا بفوارق كبيرة، إلا بعض الأشكال والأذواق.
وطبق الكسكس الضارب في أعماق التاريخ يبقى إحدى الأواصر التي تدل على الروابط الخالدة بين سكان المنطقة، قبل أن تقسمها الخرائط المعاصرة، وهو موروث مجاني صنعته أجيال غابرة، ليشهد على الأبعاد التاريخية والشعبية للمنطقة، قبل أن تدخل الأنانيات الضيقة على خط الاستئثار.
وتكون اليونسكو قد صنعت جميلا لما قررت عام 2020 إدراج طبق الكسكس في قائمتها للتراث الثقافي غير المادي، لأنها بذلك حمته من شوفينية الاستئثار والتفرد، ومن نوايا الاستحواذ الحصري، وذلك درس بليغ في ضرورة حماية الإرث الإنساني من السطو والاحتكار، لأن الطبق المذكور عريق عراقة الإنسان في المنطقة، وليس ابتكارا معاصرا.
كان المأمول أن يساهم الموروث المشترك بين سكان المنطقة في تعزيز أواصر الوحدة الثقافية والشعبية، فالعالم يعرفهم من تقاليدهم وتراثهم، ولا يمكن تسويقه خارج السياق الذي وجد فيه، فهو نتاج زخم إنساني لزرع الحقول من قرطاج إلى طنجة منذ قرون خلت، ولذلك فإن المسألة هي إرث مشترك بين الشعوب.
كان الأجدر أن يتم تثمين التراث المشترك في حركية اقتصادية واجتماعية وتسويقية مشتركة في ربوع العالم، فإلى حد الآن ولولا الجالية المهاجرة لما أمكن لأي أحد في أوروبا أو أميركا، وحتى آسيا، أن يعرف طبق الكسكس، بينما تغزو المطاعم التركية مدن المنطقة وحواضرها، على سبيل المثال لا الحصر.
الجغرافيا ظلت متحركة بسبب التطورات التي تراكمت في المنطقة، ولم تستقر إلا خلال العقود الأخيرة فقط، وأمام تعثر مساعي التكامل الشامل، فإن مثل طبق الكسكس، وغيره من معالم التراث، يبقى إرثا مشتركا شاهدا على المنبع الواحد لجذور المنطقة. ولذلك من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية الحرص على حماية الكسكس بكل أمانة ونزاهة، فهو جزء من هوية تبقى فخرا للجميع.