"عائشة".. ذاكرة حسية وعاطفة لنساء شوههن المستشرقون

يُمنى العرشي يمنية تتنقل بين جغرافيا تونس والجزائر والمغرب لتجمع وشوم النساء.
الأحد 2025/06/15
الوشوم ذاكرة وحضور

في مناخ الاستشراق صوّر الفوتوغرافيون ومن قبلهم الرسامون المرأة العربية والأمازيغية بطرق فيها الكثير من التنميط والمبالغات التي لم تسع إلى التحاور البصري مع هؤلاء النسوة بقدر ما سعت إلى تنميطهن، ومازال هذا التنميط مستمرا إلى اليوم، وهو ما دعا الفنانة يمنى العرشي إلى محاولة تقديم رواية أخرى، لا تسعى إلى التوثيق لهؤلاء النسوة بل إلى منحهن مساحة.

منذ مايو الماضي وحتى نهاية شهر يوليو القادم، يفتح مركز B7L9 للفنون بتونس العاصمة الطابق الثالث من فضائه على ذاكرة منسابة من الصور والتصورات المليئة بالحركة والحياة، وبالتفاصيل والأنوثة والرموز، وبشعر مرئي يستعيد كثافة الحضور الأنثوي في الأرض، تقدمها لأول مرة في تونس الفنانة الفوتوغرافية صانعة الأفلام، السينمائية مُتعددة الانتماء كثيفة الهوية، اليمنية – المصرية – الأميركية المقيمة في زيوريخ يُمنى العرشي.

معرض “عائشة” الذي شهد أيضا توقيع كتابها الأول بعنوان “عائشة” وهو تكريم حسي وجمالي، وبحث فني في تفصيل الانعكاس الحسي والمقاومة الفنية والهوية الإنسانية التي سعت العرشي لتقدمها وتعبّر عنها صورا وحروفا وكلمات وقصائد، متواصلة مع تلك النساء اللاتي انعكسن على صورة جدتها “عائشة” التي حملت وشمها مثل ذاكرة وحضور وتميز وتفاعل داخل المجموعة المجتمعة على فكرة المرأة وما يحيطها من تناقضات في المجتمعات الشرقية.

عائشة.. معرض وكتاب

"عائشة" أول كتاب للفنانة يمنى العرشي اعتبرته تكريما لجدتها ولهويتها العابرة للحدود الجغرافية والزمنية عبر الأجيال
"عائشة" أول كتاب للفنانة يمنى العرشي اعتبرته تكريما لجدتها ولهويتها العابرة للحدود الجغرافية والزمنية عبر الأجيال

“عائشة”، أول كتاب للفنانة يمنى العرشي اعتبرته تكريما لجدتها ولهويتها العابرة للحدود الجغرافية والزمنية عبر الأجيال، هو تكريم للنساء كما تقول العرشي “النساء اللاتي ينعكس عليهن الوطن طبيعة مجتمعا جغرافيا عادات، تمسكا بالهوية وانتصارا لها،” من اليمن إلى نساء المغرب العربي وعبورا من تونس إلى الجزائر ثم المغرب وطيلة ثلاث سنوات انشغلت واشتغلت العرشي على مفهوم الهوية من خلال المرأة وتحديدا “الوشم” وشمها في مفهوم بقائها أو وجودها، المرأة التي تحمل كيانها من أرضها عربية أمازيغية بدوية تارقية، أعادت اكتمالاتها وحملت صورتها أبعد.

تقول العرشي “هذا الكتاب ليس دراسة أنثروبولوجية ولا بحثا إثنيا ولا تفصيل مقارنات اجتماعية، ولا يشبه كاميرا المستشرقين التي لعبت بالفكرة في سطحية طافحة بالتحكم والأحكام المسبقة، إنه فعل فني وذاكرة حسية وعاطفة بصرية لكل النساء اللاتي سردن قصصهن واكتملن في السرد بتلقائية.”

وتضيف “عائشة هي الصورة والحكاية، هي القصيدة والأغنية هي التجسيد الثابت للأرض للحياة لفكرة العيش، وضرورة ثباته، وجدتها في فضاء المغرب العربي لأني لم أتمكن من العودة إلى اليمن سافرت بين جغرافيا تونس والجزائر والمغرب لأستقر على فكرة المرأة الوطن الكبير لامست عالما من جمال في ضحكات النساء في عيونهن وما تخفي من قصص بين قهر وتحكم وبين إرادة وانتصار، بين خجل وتجاوز حركاتهن في حكاياتهن في ثقتهن وفرحهن رغما عن أيّ شيء وعن كل شيء.”

في الكتاب كما في المعرض تحمل النساء عالما من تأمل من ثقة وقوة ورقة وانسياب وحنين واستمرارية صلابة ونعومة خفة وثقل بين صور غنية بشكل غير مُتعود، فالعرشي لم تقف عند تثبيت النساء على كادر الصورة بل كانت تسمح لهن بالحركة بالتلقائية بالتفاعل العفوي المستقطع بين الحكايات والضحكات والتداخل والانسياب معها حتى في تواصلها الحواري، وهو ما بدا في الصور في الأريحية في التفاعل.

نبش في خبايا نساء المغرب العربي
نبش في خبايا نساء المغرب العربي

لقد ألهم الدافع الحسي المتفاعل مع النساء وقصصهن يمنى العرشي لتكثيف الصورة بالحرف كتقاطع داخلي بين الكتابة والحركة وهي تستحضر جدتها في عبق الكلام وسحر الانفعال النوستالجي بموزاييك بصري شعوري يستحضر رائحة العود كما تقول “كانت عائشة تترك أثرا ساحرا بعطر عودها أينما هبت في المنزل.”

 في الكتاب أيضا تطرح العرشي الأرشيفات الاستعمارية والاستشراقية التي رافقت الفكر الاستعماري، إذ بحثت فيها وانطلقت منها ولكنها أحستها سطحية أو لقطات صور مقصودة وليست تلقائية، لأنها عكست فكر احتلال يبحث عن المبالغة في وصف التخلف الذي لم ينصف المرأة.

 عبر ثلاث سنوات من التنقل والمصادفات لنساء من مختلف مناطق المغرب العربي حملت العرشي فكرة الوشم كمفهوم ثابت البقاء ترسّخت في الصور التي احتواها المعرض، وهي تدفع المتلقي لتأمل من نوع آخر خاصة المتلقي التونسي الذي يندفع باحثا عن الحكايا من كاميرا العرشي، فالعين تغوص أبعد في اقتناص الأشياء التي رأتها وأحستها تسربت من الفنانة حتى يعيد قراءتها المتلقي بعينها، التي نسخت صورة جدتها ووشمها على كل امرأة صادفتها وتواصلت معها، وحاكت تفاصيل الزمن الذي عبر من تلك الثنايا التي تجعدت وتحولت على حبر حفري يثبت جدارة الحضور وانعكاس الوقع على الواقع في تفاصيل الحياة التي اكتملت في ملبسها وانتمائها.

من جبال تونس وجنوبها إلى جبال الأطلس وصحراء الجزائر اقتفت العرشي آثار الأمومة والأنوثة والحياة التي تجلت في النساء والتي برأيها اتسمت بالصمت والصمود.

الكتاب احتوى على 392 صفحة منها 320 صورة فوتوغرافية ملونة مرفقة بقصائد وحكايات.

خارطة الذاكرة والانتماء

تدفع المتلقي إلى تأمل من نوع آخر
تدفع المتلقي إلى تأمل من نوع آخر

من خلال مفهوم الوشم وعلاقته بالمرأة في مجتمعها الترابي حاولت العرشي سواء في الصور المعروضة أو في الكتاب، أن تعيد قراءة النساء في تفصيل ذلك الوشم، وكيف يتعاملن معه. واجهت الفنانة فراغ المعنى في الأرشيف الاستعماري القديم الذي نبشت فيه ولم تقتنع به، لذا حاولت أن تعيد ترميم الذاكرة من خلال بحثها وكتابها، ومن خلال المعرض فقد حاولت ببساطة إعادة اكتشاف الفكرة من الوشم لإنشاء أرشيف أكثر أصالة يعالج الفجوة بين أجيال جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا وأرشيفاتهم العائلية وصور جداتهم، إنها تقدم رسائل لحفظ الذاكرة واحتواء الأرشيف.

الانطباع الأول الذي ينتاب زائر المعرض ومتصفح الكتاب “عائشة” هو اختلافه الحسي في فكرة التعامل البصري مع الصورة لا كفكرة جامدة بل كأثر باق ولذة صامتة، وربما كما عبر رولان بارت يقف تأمل الرؤية وحيرة الرائي أمام المرئي وفق تنظير حسي وعاطفي وقراءة ما ورائية قادرة على التقمص الداخلي لتلك التفاصيل الجامدة والحيوية في نفس الوقت.

صور الكتاب والصور المعروضة تعطي شعورا سينمائيا تبدو فيه الحركة مفهوما ومشاركة وعلى حد تعبير العرشي “لا أسعى لتقديم تأريخ ولا لكتابة الواقع، أنا أبحث عن الذاكرة والأصل أريد ترميم الذاكرة وتخليصها من قيود استعمارية، لا أحب تصوير النساء كمجرد عرض واستعراض ولكن كحركة وإنسانية وكيان وتلقائية وتحاور بين جيل وجيل بشكل أصيل وجمالية خالدة.”

وتضيف “في الصورة ستدرك كيف تفاعلت مع النساء، وهذا ما منحهن أيضا ردات فعل حسية بحنين طافح أكثر ديناميكية فقد شعرن أنهن مشاركات في الجمال في الحكاية في المشروع، لم يرين أنفسهن مجرد عرض لصناعة الصور، بل شعرن بالتفاعل والمشاركة، لستُ عالمة أنثروبولوجيا، ولا أنوي أن يكون هذا العمل تحقيقًا بأيّ شكل من الأشكال، إن عملي يسمح للنساء بالشعور بالمزيد من المشاركة والحيوية.”

الصورة وحي وانعكاس

تجسيد ثابت للأرض والحياة وفكرة العيش
تجسيد ثابت للأرض والحياة وفكرة العيش

لطالما كان التصوير الفوتوغرافي وسيلةً للعرشي للتعبير عن هويتها، سواء بتصوير عائلتها في اليمن أو بإنتاج أعمال فنية تُجسد مجتمعها من النساء العربيات في أفلامها التي أخضعتها للوساطة الجمالية من أجل تكثيف الهوية الحسية والتلقائية البصرية والانتماء الإنساني.

وقد تطور هذا التوجه إلى نقد لتصوير العرب والشعوب المُستعربة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث نشأت العراشي في الولايات المتحدة، غير قادرة على التفاعل مع صور وسائل الإعلام، ما دفعها إلى تطوير محفظة أعمال تستكشف مواضيع الأنوثة والروحانية والمكان والهوية، كما فعلت في فيلم “أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون” (2018) هو فيلم قصير يتحدى الصور الشائعة للإسلام، وركزت فيه على أدوار الأنوثة والطبيعة والتأمل والهندسة والطقوس الدينية المُجسدة.

تقول الفنانة “أنا لست مستشرقة حالمة ولكنني رومانسيةٌ، أنظر بعين الهوية وبروح الانتماء، كان الأمر بمثابة احتجاجٍ لي لأتمكن من صنع صورٍ جميلةٍ تُجسد شخصيتي، وأصدقائي، وشكل عائلتي، ومناظر البلد الذي تنحدر منه عائلتي.”

عبر ثلاث سنوات من التنقل والمصادفات لنساء من مختلف مناطق المغرب العربي حملت العرشي فكرة الوشم كمفهوم للبقاء

“عائشة” منهج بحث رقيق وثنايا جمال نبشت في خبايا نساء المغرب العربي، الوشم زينة وتمييز انتماء وهوية مهما حاولن إخفاءه أو أجبرن على إخفائه، امرأة تجلس في الداخل في كادر الصورة، والظلال تُلقي على وجهها تفصيلا حاملا للواقع ومستذكرا للماضي، مُغطاةً بأقمشةٍ مُربعة تتدلى منها قلادات فضية، يداها مرفوعةٌ إلى رأسها والأخرى مُتكئةٌ على حجرها، يلامس الضوء يديها المغطاتين برموزٍ ثقيلةٍ بالحبر الأسود تلتف حول ذراعها من الداخل، كما لو كان جسدها لوحةً للتمرين، رموز ورموز، خطوط تحاول الصورة أن تقتلع الصمت بالصدى بتصور أسلوبي يجتمع فيه الوقع الآسر للصورة والإيقاع المتناغم للرسم التقليدي وما يجمع بينها من صور تعود إلى الماضي إلى الجدات، استحضار استكمالي يبوح بتفاصيل التصورات.

تقول يُمنى العرشي “النساء اللاتي التقيتهن فتحن قلوبهن وتفاصيلهن الاستذكارية، رغم أن بعضهن لم يكنّ راغبات في التقاط صورهن نظرًا إلى العلاقة العنيفة بين الاستعمار والكاميرا في شمال أفريقيا.”

11