"كانت هنا".. قصائد من مالطا تتغنى بفلسطين

انشغل الكثير من الشعراء العرب بالقضية الفلسطينية، حتى إنه لا تكاد تخلو تجربة شاعر من الكتابة عن فلسطين، لكن أن نقرأ عن هذه القضية بأعين غير عربية أمر مثير، إذ كتب شعراء بلغات مختلفة رؤاهم لما يحدث وللإنسان كل منهم بتصور خاص. الشاعر المالطي جون (بيتر) بورتلي واحد من هؤلاء وهو يقرأ تاريخ وواقع بلد يتشارك معه حوض المتوسط.
قامت الشاعرة التونسية سنية مدوري، التي تدير دار الفردوس للنشر والتوزيع، بترجمة ديوان “هنا كانت” للشاعر المالطي جون (بيتر) بورتلي.
ومنذ اللحظة الأولى، عند الدخول في هذا العالم الشعري، يلفت انتباهنا على الفور الإهداء: “إلى خالد عرار، ريما داس، نبال خليل، وليد نبهان، زهير نجار، حنين سمير مقدح”، وهي أسماء عربية، أسماء من فلسطين، يمكننا أن نتساءل إن كان أصحابها على قيد الحياة في ظل ما تعيشه فلسطين منذ السابع من أكتوبر 2023.
النظرة الوجودية
الشاهدة الافتتاحية للديوان هي للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش تلفت كذلك انتباهنا إلى ما تحمله من شعرية مأساوية لطالما تغنت بمصير فلسطين والفلسطينيين، مخلدة إياهم، جاعلة منهم أبطال العصر الحديث: لا أرض ضيقة كأصيص الورود/ كأرضك أنت… ولا أرض واسعة/ كالكتاب كأرضك أنت… ورؤياك/ منفاك في عالم لا هوية للظل/ فيه، ولا جاذبية…”
درويش ببساطته العميقة، بالتزامه الغنائي، بكونيته الشخصية ينطلق من أبسط التفاصيل لتصل إلى أسمى القيم والمبادئ، ولهذا السبب يختار الشاعر المالطي جون بورتلي، وهو الأستاذ الفخري في قسم العدالة الاجتماعية في جامعة تورونتو بكندا، هذه الأبيات بالتحديد، وهي مقتطفة من ديوان “كزهر اللوز أو أبعد” الصادر سنة 2005 عند منشورات رياض الريس، حيث إن هذا الكتاب الشعري يرتقي بالشعر العربي إلى تجربة حديثة ضاربة في الحداثة، تراهن على العمل الدؤوب والمتواصل على التفاصيل الصغيرة التي تصل إلى حد المكاشفة، وهو ما يمثل، عند الشاعر العربي الكبير، قراءة موسوعية للشعر العالمي من خلال علاقته بالثقافة اليابانية وقصيدة الهايكو، وكذلك بتجارب رائدة مثل باول سيلان، فيسوافا شيمبورسكا وديريك والكوت.
نجد عند جون بورتلي نفس المنحى الشعري ونفس النظرة الوجودية، حيث ينطلق كتاب “هنا كانت” من “حيفا” المسبية، نقرأ في قصيدة له مبنية بدقة ورهافة “بحر حيفا يوشوش للحصى البيضاء، ينحتها/ ولد يغرف الرمال المخملية/ وتحت الرياح الجائعة/ يلهو الأطفال بالصدف…/ صرخات النوارس الكادحة/ توقظني/ بينما تختلس نحلة/ هدوء يدي/ حيفا امرأة رشيقة/ حافية القدمين/ توشيها أسراب الجمال/ كنت أبحث عن مقهى/ عندما سألتني من أين أتيت؟/ وقبل أن أجيبك/ قلت بهدوء/ هل تكون، صدفة، فلسطينيا؟/ أجبتك من مالطا، وأنت؟/ لم تنبسي بكلمة/ وأنت؟/ صمت مجددا/ وغامرت بالسؤال: فلسطينية؟/ “نعم”، همست،/ كما لو أنها لا تنتمي إلى هنا”.
عن جدلية الهوية والانتماء، يبدو أن للشاعر المالطي والمتوسطي أشياء كثيرة يمكنه أن يفاتحنا بها، وكأنه جدنا عوليس المسافر الأبدي حتى وهو يحلم بالعودة إلى مسقط رأسه إيثاكا. تحمل هذه الأوديسة الجديدة اسما آخر: فلسطين، وهي ربما، كالقدس للمتدينين، عنوان دين جديد أساسه العدل والحرية، من خلال شعب ينزف في كل لحظة.
الشعر والسياسة
ربما يحمل عنوان الكتاب معاني أخرى، أولها هذا الجانب الأنثوي المعلن في “هنا كانت”، حيث إن القصيدة التي تعطي الكتاب عنوانه مبنية على هذه العلاقة بين شخصين اثنين، بين الشاعر المتكلم وبين أنثى، يمكن أن تكون هو الأنثوية أو فلسطين أو الحرية أو الحقيقة بما هي مصطلحات أو شخصيات اصطلاحية أنثوية.
نقرأ في قصيدته “وأنت تقودين السيارة/ كنت أسمع بكاءك/ الدموع الخضراء تتدفق على طول/ الجدار العازل/ من هنا عبر نهر فلسطيني/ هنا كانت قرية فلسطينية/ هنا كانت مدينة فلسطينية/ ها هنا كان حقل فلسطيني/ هنا، هنا…/ أمة تمحوها/ هياكل إسمنتية مستطيلة/ دخلنا القدس برفق/ أسدلت شعرك فدمع منه/ زيت الزيتون.”
لو كانت دموع الدم، لكانت صورة شعرية عادية، لكن دموع من زيت الزيتون أجمل وأبلغ بكثير، ومثل هذه الصور موجودة في ديوان “هنا كانت” بغزارة. وهذا بالفعل ما نقرأه في قصيدة “دموع غزة”، حيث الإيجاز يخدم شعرية القصيدة ومصداقية القضية التي تدافع عنها.
يكتب بورتلي “أنتظر الحكمة والإدراك،/ أنتظر وابل القنابل على غزة/ لانتقاء امرأة:/ لقد سرقت هذه الأوراق الفارغة/ حياتي./ حمارعتيق ينهق/ في الفراغ/ الدموع بلا جدوى/ والعطش لا طائل منه/ لتحقيق العدالة./ كم من طفل قتيل/ ستضع جثمانه رهانا،/ وكم من زهرة/ يجب أن تنحني؟/ أيها المغتصب تسرق أحلامنا وتكومها بنهم.”
كتب جون بورتلي هذه القصائد سنة 2019، لكنها نشرت بالإنجليزية فالعربية سنة 2023. الدافع السياسي واضح، لأن الشاعر يقول في آخر بيت في الكتاب “حتى الموت سياسي بامتياز”. نعم، كل شيء سياسة أي إنه ينبع من رغبة في السلطة ثم في التسلط للهيمنة على مصائر البلاد والعباد. هذا ما تصفه لنا قصائد هذا الشاعر الإنسان النبيل الذي يقول بصوت صادح ما لا يجرأ البعض عن التعبير عنه.
ولا يسعنا إلا أن نتوجه بجزيل الشكر للشاعرة التونسية سنية مدوري على هذا المجهود الجبار الذي يجعل أعيننا دائمة الانفتاح على الجرح الفلسطيني النازف. فلا شك أن الأمور ستتغير وأن الوعي الإنساني سيذهب باتجاه العدل والحرية لأجل دولة فلسطينية كاملة الحقوق. فكما قال الشاعر التونسي الكبير أبوالقاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر/ ولا بد لليل أن ينجلي/ ولا بد للقيد أن ينكسر”.