سيدي كاربنتي

يمكن القول دون أن نخشى الوقوع في المبالغات إن كاربنتييه نجح في وضع قربص على خارطة السياحة التونسية والأوروبية.
الجمعة 2025/06/13
لم تستطع سنوات الإهمال الطويلة إخفاء ملامح الجمال التي كانت عليها البلدة

لقربص مكانة في القلب، لا ينازعها عليها مكان آخر، رغم أنني زرتها مرتين فقط خلال وجودي في تونس، على مدى ربع قرن. وفي كل زيارة، كنت أمضي فيها ساعات معدودة، أتأمل جمالها الآفل وحسنها الذي كانت عليه يومًا، ثم أغادرها حزينًا، ليس بسبب الفراق، بل لأن هذه الجوهرة المتوسطية لم يُستغل من إمكانياتها أكثر من واحد في المئة على أعلى تقدير.

عندما تزور قربص لقضاء عدة أيام، بهدف العلاج الطبيعي أو الاستحمام بمياهها المعدنية، فأنت غالبًا ستقيم في فندق يُعرف اليوم باسم “رويال توليب قربص”، وهو فندق فاخر من فئة خمسة نجوم يقع بين خليج تونس وجبال قربص.

لهذا الفندق قصة تستحق التأمل: في عام 1916، حط رجل فرنسي الرحال في قربص ليقع في عشقها منذ اللحظة الأولى، تمامًا كما حصل معي، عندما وقعت في عشقها في أول زيارة برفقة الصديق عبداللطيف جاب الله، الذي شاهدني متلبسًا والدمع في عيني، وأنا أرى أجمل جوهرة في البحر المتوسط وقد لحق بها الإهمال.

 لم يُنقل جثمان إدموند كاربنتييه إلى فرنسا، بل دُفن وفق وصيته على قمة جبلية في قربص
لم يُنقل جثمان إدموند كاربنتييه إلى فرنسا، بل دُفن وفق وصيته على قمة جبلية في قربص

لست إدموند لوكور كاربنتييه، رجل الأعمال الفرنسي الذي بادر فور نزوله في قربص ببناء أول فندق فيها، وهو نفس الفندق الذي يحمل اليوم اسم “رويال توليب” بعد أن جرى تحديثه. لست سوى موظف بسيط يتقاضى راتبًا شهريًا، لا يملك سوى قلمه يلفت بكتاباته الانتباه إلى هذا الكنز السياحي المهمل.

على العكس مني، أنا الموظف البسيط، إدموند كاربنتييه كان رجل أعمال ناجحًا له أنشطة في الصحافة، حيث أسس جريدة “لا ديبيش تونسيان”، وكان ناشرًا ومحررًا للعديد من المنشورات الرسمية في تونس، ساهمت في نشر القوانين والمعلومات التجارية والإدارية. وإلى جانب عمله الصحفي، شغل منصب رئيس شركة المياه المعدنية الطبيعية، كما كان مسؤولًا عن إدارة المياه الحرارية في قربص، وساهم في تطوير السياحة العلاجية في المنطقة.

يمكن القول دون أن نخشى الوقوع في المبالغات إن كاربنتييه نجح في وضع قربص على خارطة السياحة التونسية والأوروبية. ولم تستطع سنوات الإهمال الطويلة إخفاء ملامح الجمال التي كانت عليها البلدة، إلا أن هذا الموقع سرعان ما تراجع بعد وفاته.

في العقود التالية، ورغم استمرار شهرة قربص كموقع للعلاج الطبيعي، لم تتمكن البلدة من مواكبة التطورات الحديثة في قطاع السياحة، حيث هجرها المستثمرون لصالح سياحة الشواطئ والشمس، والتي يشار إليها في عالم السياحة بـ”سياحة المحالين للتقاعد ومحدودي الدخل”، للتركيز على المدن الساحلية الكبرى مثل سوسة والحمامات وجزيرة جربة.

وكما توقع البعض منكم، لم يُنقل جثمان إدموند كاربنتييه إلى فرنسا، بل دُفن وفق وصيته على قمة جبلية في قربص، وفي نفس البقعة دفنت زوجته جان، حفيدة ماري كوري.

وإذا كانت فرنسا قد منحته لقب فارس تقديرًا لجهوده، فإن قربص منحته لقبًا من المؤكد أنه كان سيفاخر به أكثر من أي لقب آخر، إنه لقب يعكس تقديرهم وإجلالهم له، لقب لا يُمنح في تونس إلا للأولياء الصالحين، “سيدي كاربنتي”.

ومن منحدر مجاور للضريح يتدفق تيار من السيليكات تنزلق النساء العاقرات أسفله، داعيات إلى سيدي كاربنتي.. ويقال إنه يستجيب لهن.

18