نبيل العربي وجدران الجامعة العربية المتشققة

عمل نبيل العربي قاضياً في محكمة العدل الدولية لخمس سنوات بعد الألفية، وعضواً في محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي، وكان ضمن هيئة القضاة التي أصدرت حكماً جريئاً ضد الجدار العازل الإسرائيلي في العام 2004 فصار يعرف من وقتها بعدو إسرائيل، رغم كل مواقفه السابقة المؤيدة للسلام معها.
ولد نبيل عبد الله العربي في العام 1935 ودرس الحقوق في جامعة القاهرة حتى العام 1955، ليحصل على ماجستير في القانون الدولي، ثم على الدكتوراه في العلوم القضائية من مدرسة الحقوق في جامعة نيويورك، ليدخل سلك العمل الدبلوماسي، مستشاراً سياسياً وقانونياً للوفد المصري أثناء مفاوضات كامب ديفيد في أميركا أواخر السبعينات من القرن العشرين.
انتقل إلى الهند سفيراً لبلاده فيها بدءاً من العام 1981، وكان حماسه لإنهاء النزاع ما بين مصر وإسرائيل سياسياً كبيراً جداً، ما دفع نظام مبارك للاستعانة به مجدداً ليترأس وفد مصر للتفاوض على مصير جزيرة طابا في أواسط الثمانينات، قبل أن يغادر إلى جنيف ليمثّل مصر في الأمم المتحدة ثم إلى نيويورك مع بداية التسعينات، ومن خلال موقعه القانوني استعانت به الحكومة السودانية في مسألة التحكيم في حدود منطقة أبيي بين الشمال والجنوب.
العربي ونفرتيتي
حين تقابل نبيل العربي، تدرك أن مصريته وعروبته تطغى بكثير على أي شعور وانتماء آخر، وهو منغمس تماماً فيها، مستغرقٌ بعيداً عن الضغوط التي مورست وتمارس عليه في عمله، تم تكليفه في العام 2009 بمقاضاة الحكومة الألمانية لاستعادة تمثال الملكة الفرعونية نفرتيتي من متحف برلين، ومع اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير من العام 2011 تم تعيينه كعضو في لجنة الحكماء، فرشّحه شباب الثورة ليكون وزيراً للخارجية بدلاً عن أحمد أبو الغيط، وبانتصار ثورة يناير تم تكليفه العربي بمنصب وزير خارجية، فكان شديد اللهجة في التعبير عن مواقف مصر بعد سقوط نظام مبارك، وهو من أطلق التحذيرات ضد إسرائيل من القيام بأي عدوان على غزة، وكذلك طالبها بدفع فروق أسعار الغاز لمصر بعد فضيحة بيعه بأقل من سعره الحقيقي في زمن مبارك.
أمين عام الجامعة العربية
بقي نبيل العربي في منصبه حتى جاء القرار المصري بترشيح العربي لتولي منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية بعد أن تم سحب ترشيح مصطفى الفقي، ليصبح العربي أميناً عاماً للجامعة، وكان رجلان اثنان قد ناشدا العرب في الماضي أن يعلنوا شكلاً جامعاً لنشاطهم ومصالحهم وسياساتهم، الفارابي وعبدالرحمن الكواكبي، ولكنّ أياً منهما لم ير ذلك المطلب وقد تحقق، فلم يتم الإعلان عن تشكيل ذلك الجسم إلا بعد سنين طويلة على رحيل كل منهما، ولم يكن القرار بتأسيس الكيان الجامع عربياً أصلاً، بل كان برغبة وضغط وتخطيط بريطاني.
شهد عهد نبيل العربي في الجامعة العربية أكثر المراحل صعوبة، في تزامنه مع الربيع العربي والثورات التي اندلعت في عدة بلدان عربية، وكان على العربي أن يمرر الكثير ويصبر على الكثير، وكذلك أن يتحلى بالجرأة والشجاعة في إقامة التحالفات والتخلي عنها وقت الضرورة، في علاقاته مع وزراء الخارجية العرب
المؤتمر العربي الأول
في العام 1908 تشكّلت جمعية الإخاء العربي، ونشأ حزب الكتلة النيابية العربية للمطالبة بحقوق الأقاليم العربية المنضوية تحت الراية العثمانية، وفي العام 1913 عُقد المؤتمر العربي الأول في باريس، بعد أن أصبحت كلمة “بيس عرب” أي (عربي قذر) تتردد في أرجاء السلطنة العثمانية، في تعالٍ عنصري ضد العرب الذين يشكلون النسبة الكبرى من سكان الإمبراطورية، التي استولى على الحكم فيها المتعصبون الطورانيون، وكانت الدعوة لعقد المؤتمر العربي الأول، قد وجّهت من قبل بعض الجمعيات العربيّة والطلاب العرب الذين يدرسون في باريس ومنهم عبدالغني العريسي، محمد محمصاني، شارل دبّاس، شكري غانم، ندره مطران، جميل معلوف، وتوفيق فايد، وعوني عبدالهادي وجميل مردم بك، وتكونت من هؤلاء لجنة تنفيذيّة للاتصال بالجمعيات العربيّة في بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد والقدس ونابلس وسواها، وبالجمعيات والهيئات الاغترابيّة في الأميركيتين.
وكتب القنصل الفرنسي في بيروت وجه تقريراً إلى وزير خارجيته بيشون في 16 أيار من العام 1913، شرح الصعوبات التي يتعرض لها أعضاء الوفد والمضايقة المستمرة لمنعهم من السفر، أما بالنسبة إلى الوحدة العربيّة، فقد رأى القنصل أن أعضاء الوفود السوريّة لم تبحثه، ولن تبحث تكوين إمبراطوريّة عربيّة مستقلة (لأن مثل هذه الفكرة ستحاربها الدول الكبرى، ولكن هذه الوفود ستكون أكثر تواضعاً في مطالبها، حيث أنه لن تطالب بأكثر من نظام لامركزي للبلاد السوريّة ومستشارين أجانب للمساعدة في إعادة ازدهارها).
ومن بعد ظهر يوم الأربعاء 13 رجب 1331 هـ 18 حزيران 1913 م، افتتح جلسات المؤتمر وألقى فيها عبدالغني العريسي خطاباً جريئاً ضد الاستبداد والتسلط. تحت عنوان “حقوق العرب في المملكة العُثمانيّة” فقال: “إن العرب تجمعهم وحدة لغة ووحدة عنصر ووحدة تاريخ ووحدة عادات ووحدة مطمح سياسي، فنحن عرب قبل كل صبغة سياسيّة، حافظنا على خصائصنا وميزاتنا وذاتنا منذ قرون عديدة، رغماً مما كان ينتابنا من حكومة الأستانة من أنواع الإدارات كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري”، و أصدر المؤتمر قراراته وملحقاته التي تضمنت عدة قرارات ومطالب.
الجامعة العربية
وأثناء الحرب العالمية الثانية ومع تصاعد القوة النازية الألمانية شجعت بريطانيا الدول التي تحتلها نحو أي اتجاه يلبي رغبة الشعوب بالوحدة العربية كما جاء على لسان وزير خارجيتها أنتوني إيدن في العام1941، فتحرك بعض القادة العرب مستغلين تلك التصريحات باتجاه إنشاء جامعة الدول العربية، فدعا مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء المصري كلا من جميل مردم رئيس وزراء سوريا والشيخ بشارة الخوري رئيس الكتلة الوطنية في لبنان إلى زيارة لمصر وتبادل وجهات النظر فيما يختص بفكرة جامعة للدول العربية التي ستنال استقلالها، وألقى مصطفى النحاس خطابا في مجلس الشيوخ المصري في العام 1942 أعلن فيه سعي مصر إلى عقد مؤتمر للقادة العرب لبحث هذا الأمر، وفي الأردن جاءت تصريحات الأمير عبدالله متوافقة مع ما دعا إليه النحاس باشا.
وفي سبتمبر ـ أيلول 1943 بدأت المشاورات بين مصر والأردن والعراق وسوريا وصدرت تصريحات ووجهات نظر كثيرة من كل من نوري السعيد من العراق وتوفيق أبوالهدى من الأردن وسعدالله الجابري من سوريا ويوسف ياسين من السعودية ورياض الصلح من لبنان، ووفد اليمن.
بروتوكول الإسكندرية
انتهت الحرب العالمية الثانية وانتصر الحلفاء، وكان الرأي العام العربي قد صار متحمساً لقيام وحدة عربية، ووجه مصطفى النحاس باشا في 12 يوليو ـ تموز 1944 الدعوة إلى الحكومات العربية التي شاركت في المشاورات التمهيدية لإرسال مندوبيها للاشتراك في اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام التي ستتولى صياغة الاقتراحات المقدمة لتحقيق الوحدة العربية، وبعد ثماني جلسات من النقاش استبعد القادة العرب فكرة الحكومة المركزية ومشروعي سوريا الكبرى والهلال الخصيب وانحصر النقاش في تكوين اتحاد كونفدرالي لا تنفذ قراراته إلا الدول التي توافق عليه، واجتمعت تلك اللجنة في الإسكندرية في 25 سبتمبر ـ أيلول 1944 بحضور مندوبين عن مصر وسوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن والسعودية واليمن وعن عرب فلسطين، وتدخل مصطفى النحاس فأكد أن فكرة اتحاد عربي له سلطة تنفيذية وقراراته ملزمة أمر يستبعده الجميع للأسباب نفسها التي أدت إلى استبعاد فكرة الحكومة المركزية، وأنه يبقى بعد ذلك الرأي القائل بتكوين اتحاد لا تكون قراراته ملزمة إلا لمن يقبلها.
مع اندلاع الثورة المصرية في 25 يناير من العام 2011 تم تعيينه كعضو في لجنة الحكماء، فرشحه شباب الثورة ليكون وزيرا للخارجية بدلا من أحمد أبو الغيط، وبانتصار ثورة يناير تم تكليف العربي بمنصب وزير خارجية، فكان شديد اللهجة في التعبير عن مواقف مصر بعد سقوط نظام مبارك
التحالف العربي
اقترح الوفد السوري أن يكون اسم التجمّع “التحالف العربي”، واقترح العراق أن يكون الاسم “الاتحاد العربي”، ولكن الوفد المصري رأى أن اسم “الجامعة العربية” الذي تقدم به أكثر ملاءمة من الناحية اللغوية والسياسية ومتوافقا مع أهداف الدول العربية، وتمت الموافقة على اسم “جامعة الدول العربية” وصدر بروتوكول الإسكندرية الذي ينص على موافقة الدول العربية على إنشاء جامعة للدول العربية.
ثم تمت الدعوة لعقد اجتماع تحضيري لمؤتمر عربي عقد في أيلول ـ سبتمبر 1944 واستطاع المشاركون اتخاذ قرارات تعتبر الوثيقة الأولى للجامعة العربية ووقع البروتوكول في 7 أكتوبر ـ تشرين الأول من العام 1944.
وتأسست جامعة الدول العربية في 22 مارس 1945 وكانت الدول التي وقعت على وثيقة التأسيس سبع دول فقط، وكان الميثاق متألفاً من عشرين مادة، تتصل بالهدف من إقامة هذه الجامعة، ومؤسساتها، والعلاقات بين الدول الأعضاء، وإلى جانب الميثاق تم التوقيع على معاهدة الدفاع العربي المشترك في نيسان ـ أبريل من العام 1950، وميثاق العمل الاقتصادي القومي في تشرين الثاني ـ نوفمبر من العام 1980.
نبيل العربي في الربيع العربي
شهد عهد نبيل العربي في الجامعة العربية أكثر المراحل صعوبة، في تزامنه مع الربيع العربي والثورات التي اندلعت في عدة بلدان عربية، وكان على العربي أن يمرر الكثير ويصبر على الكثير، وكذلك أن يتحلى بالجرأة والشجاعة في إقامة التحالفات والتخلي عنها وقت الضرورة، في علاقاته مع وزراء الخارجية العرب، وزاد من صعوبة مهمته البيئة التي يعمل فيها في مصر، والتي شهدت اضطراب حكم المجلس العسكري ثم مرحلة الإخوان والتحولات التالية، وكان على المؤسسة التي مثلت النظام الرسمي العربي أن تصمد في وجه التداعي الذي شهدته أبرز نماذج ذلك النظام، فشجعت الجامعة إرادة الشعوب، قدر ما تستطيع، ونقلت الملفات التي لم تتمكن من حلّها إلى مجلس الأمن والمجتمع الدولي، وضغطت على الأطراف كلها، لا سيما في الملف السوري، فبادرت إلى تقديم كل ما يمكن تقديمه دبلوماسياً، ولكنها لم تفلح في الحصول على أي التزام من نظام بشار الأسد، وقام العربي شخصياً بالتواصل مع الأسد والاتفاق معه، وقد نقل أن الأسد لا يقبل بأيّ حلول سياسية، وفي الوقت ذاته يرى الأمين العام أنه لا يمكن أن يجري حل المسألة السورية بلا طاولة مفاوضات، وكان مؤمناً تماماً بجنيف وبقدرة الروس على إجبار الأسد على الحل السياسي، ولكن ظنه خاب، فأخذ يضغط على المعارضة السورية لترتيب بيتها الداخلي، وكان محقاً في توصيفه لمؤسسات الائتلاف في حديثه مع وفد المعارضة الذي ناقشه في تسلّم مقعد سوريا في الجامعة، حين قال إن هذه الجامعة هي تجمع لدول وليس لمنظمات سياسية، وأن على الائتلاف “أن يبني حكومة جادة بدلاً من مجموعة موظفين مقالين يسكنون في مكاتب في تركيا يسمون أنفسهم وزراء” على حد قوله، وأضاف العربي إن الائتلاف هو قوى وأحزاب “ولستم دولة ذات سلطة وسيادة على الأرض، ولا تستطيعون الوفاء بواجبات والتزامات سوريا، لكي تستحقوا الجلوس على مقعدها وتمثيلها، ونحن عندما مارس النظام ما يخالف ميثاق الجامعة وخالف توصياتها، جمدنا عضوية سوريا في الجامعة، وبقي مقعدها فارغا بانتظار نضوج سلطة أخرى تفوض من الشعب وتحترم ما نتوافق عليه.