فرناندو بيسوا شاعر أنشأ عائلة متينة وأمضى بقية حياته أعزب

"مدهوش أبدا" كتاب يكشف حقيقة أسماء بيسوا المستعارة.
الخميس 2025/06/12
البحث في أعمال بيسوا عمل شاق ليس له نهاية

تسعون سنة تقريبا مرت على رحيل الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، بينما لا تزال طريقته في خلق الأسماء والشخصيات الأدبية غير الحقيقية وإقناع مجتمع الأدب بها، أمرا محيّرا؛ كيف تمكن من الكتابة لكل اسم بأسلوبه وأفكاره الخاصة، حتى ذاع صيتها ولم يكشف سرّها أنها أنوات متعددة لذاته هو؟

يمثل كتاب “مدهوش أبدا” الذي جمعه وحرره وقدم له إدوين هونيج، مدخلاً قيماً إلى عالم الكاتب البرتغالي الفذ فرناندو بيسوا، لا يقدم هذا الكتاب مجرد مختارات من نثره، بل يفتح نافذة على تعقيدات فكره وهوياته الأدبية المتعددة التي اشتهر بها.

ويمتد الكتاب ليشمل جوانب أخرى من نتاج بيسوا النثري، مثل يومياته ومقالاته التي تتناول قضايا الشهرة والفن والعبقرية والشعر والتمثيل والنقد والترجمة، ورسائله الشخصية التي تلقي الضوء على حياته وأفكاره، فضلا عن خمس وعشرين قصيدة. هذا التنوع في المحتوى يجعل الكتاب بمثابة بانوراما مصغرة لعالم بيسوا الأدبي والفكري الثري.

عملية التشظي

الكتاب لا يقدم مجرد مختارات من نثر بيسوا بل يفتح نافذة على تعقيدات فكره وهوياته الأدبية المتعددة التي اشتهر بها
الكتاب لا يقدم مجرد مختارات من نثر بيسوا بل يفتح نافذة على تعقيدات فكره وهوياته الأدبية المتعددة التي اشتهر بها

يقول إدوين هونيج في مقدمة كتابه، الذي ترجمه نزار آغري وصدر مؤخرا عن دار الكتب خان، “بعد أن بحثنا عنه في الشعر ها نحن نتبع خطاه في النثر. البحث في أعمال بيسوا عمل شاق ليس له نهاية. الآخر هو الشظايا المتنوعة للـ’أنا’ الذي يحاول الشاعر أن يخفيه ويكشف عنه في آن معا. يضع على وجهه القناع لكي يزيحه، يلبسه لكي يعريه -ألاعيب يتعلمها الممثلون في المسرح للانتقال من مرحلة إلى أخرى في هوية الشخصية التي يمثلونها. في تبديل هذه الشظايا للهوية يكمن المعنى الكامل للعرض المسرحي- رسالة صاغها بيسوا على شكل حكمة: أن تمثل هو أن تعرف نفسك.”

ويضيف “في تقفي بحثه عن الذات يلاحظ المرء التنقلات الدراماتيكية التي قام بها، وذلك من خلال الأدوار المتنوعة التي أسندها إلى الأسماء المستعارة. مرة أخرى يمكن القول إن الأمر أشبه بظهور الممثل واختفائه ثم ظهوره. إن الأمر غير العادي في جسارة بيسوا (بدءا من قيامه وهو تلميذ مدرسة بكتابة قصائد باللغة الإنجليزية باسمين مستعارين هما ‘ألكساندر سيرج’ و’تشارلز روبرت آتون’) يكمن في أنه أصر طوال حياته على أن يكون أكثر من شخص. لقد بدا وكأنه يتوالد من نفسه بشكل مستمر ومن ثم يعزل نفسه عن الوجود لكي يتحول إلى لا شيء.”

 قصيدة بيسوا الشهيرة “تاباكايرا” (دكان التبغ) تبدأ هكذا: “أنا لا شيء/ سأبقى لا شيء دوما/ بل إنني أخفق في أن أتمنى أن أكون لا شيء/ ما عدا هذا، فإن أعماقي طافحة بأحلام العالم كلها.”

أو كما كتب تحت اسم “برناندو سواريس” شبه المستعار “داخل كل واحد منا ثمة اختلاف وتعدد ووفرة من الآخر.” إن الأنوات التي ابتكرها بيسوا تشبه إلى حد كبير تفرع العائلة الواحدة، إنجاب الأبناء هو طريقة لإعادة توليد الذات. يسعى الآباء وراء أكبر عدد ممكن من النسخ عن ذواتهم، وهم يبذلون جهدهم لكي تكون هذه النسخ شبيهة بهم إلى حد التطابق إن أمكن. إن الأمر يتعلق بالرغبة في لم شمل بقايا الذات الوهمية مع ذات جديدة قوية تقاوم الزمن.

ويرى هونيج أن عملية التشظي هذه ترجع في جانب منها إلى حادثة انتحار صديقه الحميم ماريو دي سا كاتيرو، الشاعر الذي استمد منه بيسوا مبكرا تجاربه في الشخصيات المستعارة. هل شكل انتحار الصديق في نهاية الأمر نوعا من القربان الذي وقف حائلا دون أن يمضي بيسوا نفسه إلى الجنون والانتحار وهو الذي كان يعاني من اضطراب شخصي حاد؟ لقد أقام بيسوا عائلة وبقي أعزب طوال عمره. وأراد أن يعيش تجربة انتحار صديقه بنفسه بأن تبنى الشخصية المستعارة المركزية “كاييرو” الذي استمد اسمه من اسم صديقه المنتحر “كارنيرو”. والأرجح أنه حين جعل “كاييرو” يموت عام 1919 فإنه كان يتبع الرغبة في تخليد جانب من جوانب ذاته، وهو ما زال على قيد الحياة، من خلال ما حظي به “كاييرو” من تمجيد وتقديس من جانب “ألفارو دي كامبوس” و”ريكاردو رييس”.

يقول بيسوا في مقال “غذائي الأدبي الأول”: “ثمة شعر في كل شيء، في الأرض وفي البحر، في البحيرة وعلى ضفة النهر، في المدينة أيضا، لا تنكر ذلك. بل إني أراه هنا حيث أجلس: هناك شعر في الطاولة، في هذه الورقة، في هذه المحبرة. هناك شعر في صخب السيارات في الشارع، في كل دقيقة من الحركة العادية المضحكة للعامل اليدوي، الذي على الجانب الآخر من الشارع، يصبغ لافتة دكان القصاب. إن إحساسي الداخلي يتفوق بطريقة ما على حواسي الخمس فأرى أشياء في هذه الحياة -وأنا أؤمن بها حقا- بطريقة تختلف عن الآخرين.”

ويضيف “بالنسبة إلي ثمة -كانت ثمة- ثروة من المعاني في شيء تافه مثل مفتاح، مسمار في الجدار، شوارب قطة. بالنسبة إلي هناك إيحاء روحي كامل في دجاجة تتبختر مع فراخها على الطريق. بالنسبة إلي هناك معنى أعمق من أي مخاوف بشرية في رائحة صمغ الخشب، في العلب القديمة الفارغة في مكب قذر للنفايات، في علبة عيدان الكبريت في مجرى الصرف الصحي، في ورقتين متسختين تتقافزان، في الشارع في يوم عاصف، خلف بعضهما. الشعر افتتان، انبهار، مثل كائن يهوي من السماء وهو يعي تماما أنه يهوي ويندهش من الأشياء من حوله، مثل شخص كان يدرك روح الأشياء ويحاول الآن أن يتذكر ذلك الإدراك، متذكرا أن إدراكه آنذاك لم يكن على هذا النحو، لم يكن بهذا الشكل، وفي هذه الأحوال ولكنه لا يتذكر أكثر من هذا.”

خلق الشخصيات

الأنوات التي ابتكرها بيسوا تشبه إلى حد كبير تفرع العائلة الواحدة، فإنجاب الأبناء هو طريقة لإعادة توليد الذات
الأنوات التي ابتكرها بيسوا تشبه إلى حد كبير تفرع العائلة الواحدة، فإنجاب الأبناء هو طريقة لإعادة توليد الذات

حول أصل أسمائه المستعارة يشير بيسوا إلى أنه من الجانب السيكولوجي “أصل أسمائي المستعارة هو في الأساس جانب من الهستيريا التي تقبع في أعماقي، لا أعرف بالضبط إن كنت هستيريا عاديا، أم أنني هستيري هزيل عصبيا. أرجح الفرضية الثانية. لأن شخصيتي تنطوي على مظاهر من الكسل لا تعتبر عادة من أعراض الهستيريا بمعناها الدقيق. وبناء على ذلك فإن الأصل الذهني لأسمائي المستعارة يكمن في نزعة عضوية راسخة لدي نحو نزع الشخصنة والتكلف. هذه الظواهر لحسن حظي وحظ الآخرين تتمظهر في النشاط الذهني. أعني لا تتجلى في حياتي العملية على السطح ومن خلال الاحتكاك مع الآخرين، بل هي تنفجر في داخلي وأنا أصطدم بها لوحدي.”

ويروي بيسوا القصة المباشرة لأسمائه المستعارة “أبدأ بأولئك الذين ماتوا، وبالبعض ممن لم أعد أتذكرهم. أولئك الذين ضاعوا في الماضي البعيد والمنسي إلى حد كبير من طفولتي. منذ طفولتي كانت تحركني رغبة عميقة في أن أصنع حولي عالما خياليا، محاطا بأصدقاء وأقارب لا وجود لهم. (لا أعرف بالطبع هل حقا لم يكن لهم وجود أم أنني أنا لم أكن موجودا. في أمور كهذه، وفي غيرها من الأمور، ينبغي ألا نكون دوغمائيين).”

ويضيف “بما أنني أعرف نفسي باعتباري الشخص الذي هو أنا، فأنا أتذكر أنني تأكدت، من خلال الملامح والحركات والهيئة والتاريخ، من أن أثبت ذهنيا العديد من الشخصيات غير الحقيقية التي كانت بالنسبة إلي مرئية على قدم المساواة مع أولئك الذين نعتبرهم من الواقع الفعلي، رغم أننا قد نكون مضللين في ذلك. هذه النزعة المترسخة عندي منذ وعيت على من أسميه ‘أنا’، ظلت ترافقني وتخمد قليلا تلك الموسيقى التي تسحرني دون أن تخفي طريقتها في أن تسحرني. وهكذا فأنا أتذكر ما يمكن أن يعتبر اسمي المستعار الأول، أو بالأحرى صاحبي الأول الذي لا وجود له، وهو ‘شوفالييه دي با’، وكان عمري 6 سنوات؛ حيث بعثت برسائل منه إليّ، والذي ما زالت شخصيته -التي لا يلفها الغموض بشكل كلي- تستحوذ على الجانب المكرس للحنين من عاطفتي.”

ويتابع “هذا الميل لإحاطة نفسي بعالم آخر مساو لهذا العالم، ولكن مع أناس آخرين، لم يغادر مخيلتي قط. وهو مر بمراحل عديدة بما فيها المرحلة الراهنة التي تحدث الآن في سنوات نضوجي. داهمني إلحاح روحي، غريب كليا، لسبب أو لآخر، بخصوص ما أكون أو ما يفترض أن أكون. تكلمت إليه مباشرة وبشكل عفوي، كما لو كان أحد أصدقائي وهيأت له اسما ووضعت له تاريخا، وعلى الفور رأيت في داخلي هيئته، وجهه، قوامه، سلوكه.”

 وهكذا خلق العديد من العديد من الأصدقاء والمعارف، ووضع لهم ذرية، مع أنه لم يكن لهم وجود قط على أرض الواقع. كان يسمعهم ويحس بهم ويراهم، ويتلقى منهم التحيات.

 ويتابع “نحو عام 1912 إن لم أكن مخطئا، خطرت لي فكرة أن أكتب عدة قصائد ذات طابع وثني. خربشت بعض الأشياء بصيغة الشعر الحر (ليس على طريقة ألفارو دي كامبوس ولكن بأسلوب نصف عادي إلى حد ما)، ومن ثم تخليت عن المحاولة. ولكن في تلك الخربشة العامة عثر على الملامح الأولية للشخص الذي كان يكتب. (من دون علمي، كان ريكاردو رييس قد ولد).”

هونيج يرى أن عملية التشظي ترجع في جانب منها إلى حادثة انتحار صديقه الحميم ماريو دي سا كاتيرو، الشاعر الذي استمد منه بيسوا مبكرا تجاربه في الشخصيات المستعارة

ويلفت بيسوا إلى أنه “بعد سنة ونصف السنة أو سنتين أتذكر أنني تلقيت التحدي من سا كارنيرو: أن أخلقه في هيئة شخصية ريفية معقدة إلى حد ما وأقدمه للناس، لا أذكر على وجه الدقة كيف. ولكن على أساس أنه كائن فعلي. اشتغلت عليه عدة أيام غير أني لم أفلح. اليوم الذي رفعت يدي عنه -وكان ذلك في 8 مارس 1914- جلست إلى طاولة عالية وأخذت ورقة وبدأت أكتب واقفا، كما أفعل دوما حين تواتيني الفرصة لذلك. وكتبت نحو ثلاثين قصيدة، واحدة بعد الأخرى، في نوع من الانخطاف، دون أن أعرف ماهيتها. كان يوما مظفرا في حياتي، ولن أصادف مثله مرة أخرى أبدا. بدأت بالعنوان: ‘حارس الغنم’. وتبع ذلك انبثاق شخص من داخلي أسميته، منذ ذلك الحين، ألبيرتو كاييرو.”

ويتابع “أستميحكم العذر لسخافة الجملة: من أعماقي نهض سيدي. كان هذا رد فعلي الفوري. وهكذا لم أكد أنهي تلك القصائد الثلاثين حتى أسرعت لتلقف المزيد من الأوراق ومضيت أكتب، دون توقف هذه المرة أيضا، القصائد الست التي شكلت ‘المطر المائل’ لفرناندو بيسوا. دفعة واحدة وبالتمام والكمال. كان هذا إيذانا بعودة فرناندو بيسوا، عودة ألبيرتو كاييرو إلى فرناندو بيسوا نفسه. ومن الأصح القول إن هذا كان رد فعل فرناندو بيسوا على وجوده المتمثل في ألبيرتو كاييرو.”

مع ظهور ألبيرتو كاييرو حاول بيسوا بشكل غريزي ولا واع أن يجد له تلاميذ. وهكذا من قلب وثنيته المزيفة أخذ “ريكاردو رييس” الذي أوجد اسمه وألبسه إياه، إذ سبق أن رآه هناك في تلك المرحلة. وفجأة وبالضد من “ريكاردو رييس” نهضت من أعماقه وبشكل متهور شخصية جديدة. انبثقت فجأة من بين حروف الآلة الكاتبة ومن دون انقطاع أو تصحيح “الأنشودة المظفرة” لألفارو دي كامبوس. الأنشودة للعنوان والاسم للرجل. ثم نشأت طغمة لا وجود لها، ونظمها بيسوا كلها في مراتب فعلية. وعمد إلى قياس العلاقات المتبادلة والدخول في صداقات وصار يسمع بداخله نقاشات وآراء متصارعة، وفي كل هذا يبدو لنفسه خالق هذه الأشياء، يقول “كنت الأقل حضورا. يبدو أن كل شيء كان يسير بمعزل عني.”

ويسأل بيسوا ويجيب “كيف أعمد إلى الكتابة تحت هذه الأسماء الثلاثة ‘كاييرو’ بمحض إلهام صاف وغير متوقع، من دون أن أعرف أو أقصد ما سوف أكتبه. ‘ريكاردو رييس’ بعد نوع من التداول المجرد الذي سرعان ما يتجسد في أنشودة. ‘كامبوس’ حين تعتريني رغبة مفاجئة لأن أكتب، ولكنني لا أعرف ماذا أكتب. اسمي النصف مستعار، ‘برناندو سواريس’، الذي يشبه ‘ألفارو دي كامبوس’ من عدة أوجه، يبدو على الدوام متعبا أو نعسان، بحيث تتعطل إلى حد ما قواه في المحاججة أو التخمين. هو يكتب نثرا في حالة من الحلم النهاري الدائم.”

ويضيف “هو مجرد انعكاس مشوه لشخصيتي. إنه أنا، ولكن بقدر أقل من العقلانية والعاطفة. إنه نثر، باستثناء ما يخفف العقل من عبئه في داخلي، (…) مساويا لي، هو ولغته البرتغالية، سيان بالكامل… وبقدر ما يتعلق الأمر بهذا الجانب، فإن ‘كاييرو’ يكتب ببرتغالية رديئة، و’كامبوس’ بعقلانية مشوبة بالثغرات. و’رييس’ أفضل مني، ولكن تسيطر عليه مسحة طهرانية أجدها مبالغا فيها، يصعب عليّ أن أكتب النثر -غير المنقح- الذي يكتبه ‘رييس’ أو ذاك الذي يكتبه ‘كامبوس’. التعبير بالشعر أسهل لأنه أكثر عفوية.”

13