العُرف يُختبر.. هل تفقد مصر قيادة الجامعة العربية؟

الواقع العربي تغيّر والعرف وحده لم يعد يحكم لعبة التوازنات في المنطقة هناك الآن قوى جديدة تصعد وأخرى تُهمّش وثالثة تحاول تثبيت موطئ قدم عبر مؤسسات الشرعية الرمزية.
الثلاثاء 2025/06/10
ساحة خلفية لصراع النفوذ

مع اقتراب نهاية الولاية الثانية لأحمد أبوالغيط كأمين عام لجامعة الدول العربية، بدأت القاهرة في سباق الوقت لترتيب البيت من الداخل، ليس فقط لتسمية خليفة من داخل الدولة، بل لاحتواء تصدّعات إقليمية باتت تطعن في “عرف غير مكتوب” يرى في مصر الوصي الدائم على أمانة الجامعة، بحكم استضافتها للمقر منذ التأسيس عام 1945.

لكن الواقع العربي تغيّر. والعرف وحده لم يعد يحكم لعبة التوازنات في المنطقة. هناك قوى جديدة تصعد، وأخرى تُهمّش، وثالثة تحاول تثبيت موطئ قدم عبر مؤسسات الشرعية الرمزية. ومن بين هذه المؤسسات، تظل جامعة الدول العربية واحدة من آخر المساحات التي يمكن الاستثمار فيها لتعزيز النفوذ أو الحد منه.

القاهرة بدأت فعلياً مشاورات لطرح اسم رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي، وهو ترشيح يحمل أكثر من دلالة. فمدبولي ليس من “أبناء الخارجية” كما جرى العرف في معظم التعيينات، بل هو رجل تكنوقراط لم ينخرط في ملفات الصراع العربي أو توازنات الإقليم السياسية. وبالقياس الرمزي، فإن الدفع باسمه يعني أمرين، رغبة مصرية في تقديم وجه غير مثير للجدل عربياً، وإقرار ضمني بأن العناوين الدبلوماسية التقليدية (كشكري وعبدالعاطي) أصبحت محط خلاف داخل البيت العربي نفسه، خصوصاً من بعض دول الخليج.

◄ ما يجري اليوم هو نزع آخر قناع رمزي عن النظام العربي الرسمي، لصالح نظام جديد، لا يتعامل مع المراكز التاريخية إلا بوصفها أدوات محتملة، لا قِبَل لها بالسيادة ولا بالفيتو

لكن ما لا يُقال في القاهرة بصوت عالٍ هو الخوف المتنامي من كسر هذا العرف الذي لطالما اعتُبر مسلّمة سياسية. فهناك أحاديث عربية – لا تُقال أمام الميكروفونات – عن رغبة سعودية في قطف المنصب، إما كاملاً أو عبر أمانة عامة مساعدة بصلاحيات واسعة، وهو ما يعكس طموحاً سعودياً لتعديل مركز الثقل الرمزي في الجسم العربي الرسمي.

في السنوات الأخيرة، باتت الجامعة العربية هيكلاً مجمّداً في نظر الكثيرين، ورمزاً لعجز النظام الإقليمي عن الفعل. لكن الحقيقة أن القوى الصاعدة ترى في “المنصة” فرصة لتقنين الوجود أكثر من كونها مؤسسة لإنتاج الفعل. وبالتالي، فإن التنافس على المنصب ليس رغبة في تفعيل الجامعة بقدر ما هو سعي لتقييد من يتحكم بها، ومن ثمّ التحكم باتجاهات “العجز الجماعي”.

من هنا، يبدو أن التنافس هذه المرة ليس على شخصية بقدر ما هو على فلسفة الدور، فهل تظل القاهرة مركزاً رمزياً رغم تراجعها الفعلي؟ أم أن الخليج، وبالأخص الرياض، أصبح يرى نفسه أحق بإدارة الملف العربي الرسمي، ضمن ما يُعرف بـ”الشرق الأوسط الجديد”؟

كل هذا يجري في ظل مشهد إقليمي محتقن، حرب في غزة تعيد ترتيب الاصطفافات، وسوريا على فوهة تغيّرات كبرى، العراق واليمن في مهب التوازن الإيراني – الخليجي، والسودان على حافة التفكك، والجامعة العربية تغيب أو تُستدعى شكلياً.

في هذا السياق، يبدو أن المعضلة ليست في الاسم المطروح بقدر ما هي في الغطاء الإقليمي المطلوب لتمريره. لكن ما يُهمس به في الكواليس لا يتوقف عند حدود الطموحات الإقليمية، بل يمتد إلى الرهانات الدولية غير المُعلنة. فالولايات المتحدة التي ترى في السعودية حليفها الأوثق في الخليج، قد لا تمانع تولّي الرياض زمام الجامعة العربية، خصوصاً إذا ما ارتبط ذلك بتوجهٍ أكثر حسماً ضد إيران ونفوذها في المشرق العربي. في المقابل، قد ترى موسكو أن بقاء القاهرة على رأس الجامعة يُبقي على نوع من “التوازن الرمزي” في وجه مشاريع التمدد الخليجي، ما يمنحها هي الأخرى هامشاً أوسع للمناورة. وبين هاتين الرؤيتين، يبدو أن الجامعة تحوّلت إلى ساحة خلفية لصراعات نفوذ، لا يُفصح عنها لكنها تُمارس بأدوات ناعمة وشبه نائمة.

◄ القاهرة بدأت مشاورات لطرح اسم مصطفى مدبولي، وهو ترشيح يحمل أكثر من دلالة. فمدبولي ليس من أبناء الخارجية كما جرى العرف في معظم التعيينات

لا تُخفي الرياض طموحها المتزايد في إعادة تشكيل معادلة التأثير داخل الأطر العربية الرسمية، وعلى رأسها منصب الأمين العام. لم تعد المملكة تكتفي بلعب أدوار الدعم من الخلف، بل تسعى اليوم، في ظل مشروعها السياسي والاقتصادي الصاعد، إلى تثبيت حضورها في مفاصل القرار العربي. ومن هذا المنطلق، برزت خلال المشاورات التمهيدية إشارات واضحة إلى رغبة سعودية في تولّي المنصب أو على الأقل ضمان موقع متقدّم في الأمانة العامة بصلاحيات موسعة. هذا الطموح لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى تحولات ملموسة جعلت من الرياض مركز ثقل جديد، ترى أن من حقها أن تعبّر عن هذا الدور من داخل مؤسسة الجامعة، لا فقط عبر دعم قراراتها. وهو ما يضع القاهرة أمام معادلة دقيقة، الحفاظ على عرف تاريخي في وجه طموح سعودي يتقدم بثقة وثقل.

إن طرح اسم مدبولي – الخارج من عباءة التكنوقراط لا الدبلوماسية – مؤشر على ضيق الخيارات أكثر من كونه اختياراً إستراتيجياً. كما أن الحديث عن تصعيد كامل الوزير لرئاسة الحكومة المصرية ربما يعكس ترتيبات داخلية في القاهرة أكبر من مجرد تغيير مواقع، بل إعادة تموضع تستبق اشتباكات إقليمية محتملة في ملفات تتجاوز الجامعة العربية نفسها.

في نهاية المطاف، لم يعد من الممكن الاعتماد على أعراف بلا أسنان. فالمسألة أبعد من منصب، وأعمق من اسم. نحن أمام لحظة تحوّل تاريخي في المنطقة، لم تعد فيها الأعراف السياسية العربية قادرة على الصمود أمام منطق القوة. ويبدو أن هذا الصراع على أمانة الجامعة ليس سوى انعكاس لانهيار تدريجي لفكرة “العُرف العربي” نفسها، تمامًا كما اهتزت أعراف التوريث الجمهوري في بعض الدول، أو حين خرجت قرارات مجلس التعاون من قبضة العائلات المالكة إلى مساحات تفاوضية غير مألوفة. ما يجري اليوم هو نزع آخر قناع رمزي عن النظام العربي الرسمي، لصالح نظام جديد، لا يتعامل مع المراكز التاريخية إلا بوصفها أدوات محتملة، لا قِبَل لها بالسيادة ولا بالفيتو.

9