تحبّ السياسة لأنها تحبّ الناس

مع صدور مذكّرات رئيسة الوزراء النيوزيلندية السابقة جاسيندا أرديرن قبل أيام، بعنوان “نوع مختلف من القوّة: مذكّرات”، ينبغي أن نضع حادثتين على طاولة التأمّل ونقترحهما على الزعماء العرب، الفاسدين منهم تحديدا.
تركَت هذه السيّدة درسا أخلاقيّا حين كانت في أوج إنجازاتها السياسية: استقالت من رئاسة الحكومة ولم تقع تحت إغراء الكرسي. فهي تحب السياسة لأنها تحب الناس؛ وهو شعور لا يعرفه السياسيون الفاسدون والفاشلون.
شهدت نيوزيلندا في عهدها واحدة من أبشع الهجمات الإرهابية؛ إذ قتل رجل أسترالي من اليمين المتطرّف 51 مصلّيًا في مسجد، وبث الجريمة مباشرة على فيسبوك. أنصت العالم بعدها إلى أرديرن بإعجاب منقطع النظير في خطاب إنساني بعنوان “إنّهم نحن”، قالت فيه “قد يكون العديد ممّن تأثّروا مباشرة بإطلاق النار مهاجرين إلى نيوزيلندا، وقد يكونون حتى لاجئين هنا. لقد اختاروا جعل نيوزيلندا وطنا لهم، وهي وطنهم.”
ثمّ احتضنت أرديرن عائلات الضحايا، وزارت مساجد المسلمين وبيوتهم، ربّتت على أكتاف الزوجات والأطفال، وبكت معهم، مقدّمة أحد أندر الدروس الأخلاقيّة في السياسة المعاصرة.
وتسرد أرديرن في كتابها كيف اتّصل بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد المذبحة “ناقشنا ما قد يحدث للإرهابي. استخدمتُ كلمة إرهابي تحديدا، فسألني إن كنّا نطلق على المسلّح هذا الوصف.” فأجابته “نعم، كان هذا رجلاً أبيض من أستراليا استهدف مجتمعنا المسلم عمدا، ونحن نطلق عليه هذا الوصف.” لم يُجب ترامب، لكنّه سأل إن كان بإمكان أميركا أن تفعل شيئاً، فقالت له “بإمكانك إظهار التعاطف والمحبة لجميع المجتمعات المسلمة.”
كان ذلك نقيض سياسة التفرقة السائدة. وتقول أرديرن إن الإرهابي “اختارنا لأنه كان يعلم أن نيوزيلندا ترحب علنا بالناس من جميع الأديان. أراد تدمير ذلك.”
في حادثة ثانية عام 2022، قبل أشهر قليلة من استقالتها، كانت أرديرن تقف عند حوض غسل اليدين في مطار أوكلاند حين اقتربتْ منها امرأة وانحنت حتّى شعرت أرديرن بحرارة بشرتها، وقالت ساخرة “شكرا لكِ على تدمير البلد!” ثم استدارت ومضت، تاركة أرديرن واقفة كطالبة ثانويّة تعرضت للإهانة.
ومع أنّها كانت مثالاً سياسيّا مُلهِمًا للعالم بأسره -باستثناء تلك المرأة المتهكمة- أعلنت في يناير 2023 استقالتها بطريقة دراماتيكيّة بعد ستّ سنوات في المنصب.
“كيف استطاعت أن تفعل بنا هذا؟” صرخ معجبوها، في وقت ينهار فيه العالم أمام أعينهم.
مارست هذه السيدة السياسة بالتعاطف والعاطفة ومناهضة العنصريّة، ومثّلت المرأةَ كرمز لزمن أكثر عقلانيّة، حين كانت القواعد والمعايير الدولية لا تزال تعني شيئًا، في وقت بروز قيادات نسائية أخرى مثل أنجيلا ميركل في ألمانيا وتيريزا ماي في بريطانيا.
في حوار مع رئيسة تحرير صحيفة الغارديان كاثرين فاينر بشأن مذكراتها تقول أرديرن “أنت تختار اللوم. تلوم الآخر، تلوم المهاجر، تلوم الدول الأخرى، تلوم المؤسسات متعددة الأطراف. لكن هذا لا يحل المشكلة جذريا. في الواقع، كل ما يحدث في النهاية هو وجود مجموعة مُهمشة، وأشخاص يشعرون بالاستياء والغضب، ويزدادون رسوخا.”
وها هي مذكراتها تصدر كنوع من قوة العاطفة وقد شقّت هذه المرأة طريقا عالميا يذكّر بأسلوب مختلف في الحكم، من ارتداء الحجاب واحتضان العائلات الثكلى بعد مذبحة المسجد، إلى الحفاظ على رباطة الجأش والذكاء والإنسانية وسط الصدمة التي أصابت شعبها وكلّ مسلمي العالم.
لهذا بلغ الأمر بعدا حدَّ سمي “هَوَس جاسيندا” شعوب كثيرة كانت تتمنّى رئيسةَ وزراء مثلها؛ فأنّى لها ذلك؟
إذا كان الزعماء القساة المتشبّثون بالسلطة يتوسدون كتاب “الأمير” لميكيافيلّي، فإن الزعماء العرب اليوم أحوج ما يكونون إلى قراءة مذكرات أرديرن الجديدة.
الشعور بالذنب جزءٌ من حياة رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة. تقول “لا يمكنك التخلص منه، بل تحاول فقط كبته.” فمَن من الزعماء العرب يشعر بالذنب؟