"لا أزال هنا"… وثيقة بصرية تاريخية تدين إجرام النظام الشمولي في البرازيل

يواصل المخرج البرازيلي والتر ساس اتباع أسلوبه الذي يقوم على الجمع بين الحس الإنساني والاهتمام بالتفاصيل في فيلمه "لا أزال هنا" الذي يلتقط فيه اللحظات اليومية والتفاصيل التي عاشها السياسيون إبان الثورة العسكرية في البرازيل في سبعينات القرن الماضي، موثقا التوترات الاجتماعية والسياسية التي لا تزال حية في ذاكرة الكثير من المواطنين.
فاز الفيلم البرازيلي “عميل سري” للمخرج البرازيلي كليبر مندوسا فيلو بجائزة أفضل إخراج في مهرجان كان السينمائي الثامن والسبعين والذي انتهت دورته منذ فترة قصيرة، كما فاز بطله فاغنر مورا بجائزة أفضل ممثل في المهرجان نفسه.
يروي الفيلم الذي تدور أحداثه عام 1977 قصة مارسيلو (فاغنر مورا) الشاب الأربعيني الذي قرر الهرب من الشمال بعد معرفته بوجود قتلة مأجورين يريدون تصفيته أرسلهم أحد الرجال المرتبطين بالنظام القمعي الذي يحكم البلاد للقيام بهذه المهمة فيقرر العودة إلى مسقط رأسه بلدة ريسيف من أجل رؤية ابنه الصغير والبقاء قريبا منه والاستقرار فيها من جديد وتكون عودته يوم الكرنفال السنوي للبلدة الذي يموت فيه الكثيرون دون معرفة الأسباب.
فيلم مأخوذ عن قصة حقيقية من مذكرات الكاتب البرازيلي مارسيلو روبنز بايفا والذي يروي فيه قصة والده
يبدأ مارسيلو حياة جديدة ويعمل في السجل المدني للبلدة حيث يكتشف من خلال وظيفته أسرارا كثيرة عن ماضيه وماضي عائلته وخصوصا أمه، كما يكتشف أسرارا عن خفايا النظام وكيف تتم مراقبة الناس من خلال التنصت على مكالماتهم الهاتفية.
الفيلم ينتمي لنوع الأفلام السياسية وأفلام الجريمة بأجواء من الواقعية السحرية – التي تعكس ثقافة تلك المجتمعات – وتجري أحداثه في ظل الحكم العسكري الدكتاتوري للبرازيل الذي امتد منذ العام 1964 حتى العام 1985 حيث بطش هذا النظام بأبناء هذا البلد وقام بتصفيتهم واعتقالهم وتغييبهم قسريا ناسبا إليهم تهما زائفة، وهي الثيمة نفسها التي بني عليها الفيلم البرازيلي “لا أزال هنا” للمخرج والتر ساس والذي فاز هذا العام بأوسكار أفضل فيلم أجنبي.
“لا أزال هنا” مأخوذ عن قصة حقيقية من مذكرات الكاتب البرازيلي مارسيلو روبنز بايفا والذي يروي فيه قصة والده روبنز بايفا البرلماني السابق قبل الانقلاب العسكري في البرازيل والذي قام النظام الشمولي الحاكم بإلقاء القبض عليه بعد أربع سنوات من توليه الحكم بتهمة تشويه سمعة النظام، الأمر الذي سيقلب حياة عائلته الهانئة رأسا على عقب ويغيرها إلى الأبد.
حاز الفيلم على جوائز عديدة قبل حصوله على أوسكار أفضل فيلم أجنبي كجوائز في مهرجان الغولدن غلوب وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان فينيسيا الإيطالي عام 2024.
امرأة جبارة
يروي فيلم “لا أزال هنا” قصة الناشطة الحقوقية النسوية يونيس بايفا (فرناندا توريس – بأداء مذهل) التي يتم اعتقال زوجها روبنز بايفا (سيلتون ميلون) عضو البرلمان السابق من قبل الشرطة السرية في إحدى الأمسيات الصيفية من وسط منزله في مدينة ريو دي جينيرو حيث تقتحم الشرطة المنزل بلباس مدني وتقتاده مع زوجته وابنته البالغة من العمر أربعة عشر عاما إلى أحد مقراتها ثم يطلقون سراح الزوجة والابنة ويحتفظون بالرجل. يكون هذا الحدث هو الحدث المفصلي الذي تبنى عليه قصة الفيلم.
بعد افتتاحية جميلة للفيلم نرى فيها العائلات في مدينة ريو دي جينيرو تلهو على شاطئ البحر، الأطفال يستمتعون بلعب كرة القدم والرجال يتحدثون في الوضع السياسي الجديد للبلد بعد أربع سنوات على الانقلاب العسكري وتولي نظام دكتاتوري قمعي السلطة. من بين هؤلاء الرجال يظهر روبنز بايفا الذي كان في السابق برلمانيا قبل الانقلاب والذي يحيا الآن حياة هانئة مع عائلته المكونة من زوجته وأولاده الخمسة – أربع فتيات وصبي – في منزلهم الحميمي الفسيح ضمن جو عائلي متماسك ومتناغم رغم انتشار المظاهر العسكرية في شوارع المدينة وتحليق الطيران المروحي فوق الشاطئ إلا أن الشعب المحب للحياة لا يبالي لا بالعسكر ولا بسلطتهم.
تستمر الحياة طبيعية إلى أن تأتي لحظة اعتقال روبنز بتهمة العمل على تشويه سمعة السلطات الحالية حيث تبدأ بعدها معاناة هذه العائلة وخصوصا يونيس الأم التي تبدأ رحلة البحث عن زوجها في معتقلات ومراكز هذا النظام الذي اعتقل مئات الآلاف من الشعب البرازيلي وقام بتصفيتهم بحجج واهية خوفا من أن يقوضوا سلطته بواسطة كلمتهم الحرة ورفضهم لاستبداده.
تصبح يونيس الأم والأب لأبنائها بعد غياب زوجها الذي لم تحصل على جواب حول مصيره من السلطات وفي لحظة حاسمة تقرر هجر المنزل الذي يذكرها كل ركن فيه بزوجها وبأجمل لحظات حياتهم، تأخذ أولادها وتنتقل إلى ساو باولو لتكون قريبة من أهلها فهي بحاجة إلى سند بقربها. هناك تتحول إلى ناشطة حقوقية تلاحق ملفات المفقودين مثل زوجها وتبقى كذلك حتى نهاية حياتها وسقوط النظام الدكتاتوري عام 1985 حيث تظهر وهي تشاهد التلفاز في مشهد محزن وقد أصابها الزهايمر، يمر اسم زوجها في نشرة الأخبار من بين الأسماء التي تذيعها السلطات الجديدة عن المعتقلين السياسيين الذين تمت تصفيتهم في سجون النظام السابق وزوجها من بينهم.
سينماتوغرافيا واقعية
إننا هنا أمام لحظة حزينة في الفيلم الذي وثق بطريقة روائية جرائم النظام الديكتاتوري الذي حكم البرازيل لأكثر من عقدين مثلها مثل باقي دول أميركا اللاتينية كالأرجنتين وتشيلي، والذي كانت الروائية ايزابيل الليندي خير من فضح ممارساته الوحشية من خلال روايتها “الحب والظلال” و”إيفالونا” و”بيت الأرواح” كاشفة بتلك الروايات عن الويلات التي جرتها تلك الأنظمة الشمولية المجرمة على شعوب أميركا اللاتينية.
قدم والتر ساس فيلمه بأمانة بصرية كبيرة اصطحبنا فيها إلى أجواء سبعينيات القرن العشرين بتفاصيلها ابتداء من الديكورات والملابس والألوان الباهتة المتقشفة، ليقدم لنا فيلما واقعيا فحتى اللحظات الجميلة التي كانت العائلة تصورها كانت تصور بكاميرا سينمائية محمولة من طراز 8 ملم فجاء فيلمه توثيقيا من حيث الصورة معتمدا الإيقاع السريع في بداية الفيلم ثم الهادئ في منتصفه.
ظهر الفيلم كأنه فيلم كلاسيكي صور في سنوات السبعينيات من القرن الماضي وليس عام 2024 الأمر الذي أضفى عليه واقعية ومصداقية كبيرة وجاء كوثيقة سينمائية تاريخية تفضح ممارسات النظام الشمولي الذي حكم البرازيل في فترة من تاريخها فاستحق جائزة الأوسكار عن جدارة وكان إضافة جديدة إلى سينما مخرجه والتر ساس صاحب “محطة البرازيل” الذي عرض عام 1998 والذي حصل عليه على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي في حينها.